مركز الشرق للأبحاث و الثقافة

سُنَّةُ التغيير ماضية، ولكنْ | تغيرات التاريخ والسياسة

سُنَّةُ التغيير ماضية ، ولكنْ !

كتب – أحمد المدلل

شئنا أم أبينا ، كل شئ يتغير ولا يبقى على حاله ، بما فيه نحن ومن حولنا، لا يبقى القوى قوياً ولا الضعيف ضعيفا والتاريخ فى حالة تغير مستمر ، هل العالم اليوم هو نفسه قبل عام ؟ ..

فيروس كورونا covid 19 فى أقل من عام قلب العالم رأسا على عقب ، والى هذه اللحظة يعيش العالم دوامة لها أول وليس لها آخر نتيجة تفشى فيروس كورونا مجهول الهوية … كما أن القيم والثقافات والأدوات تغيرت ، حتى العلاقات بين الأفراد وبين الجماعات والمجتمعات وبين الدول تتغير وتتبدل حسب الأهواء والمصالح ومدى الانسجام ، كل شئ يتغير وهذه طبيعة الأشياء …

أما السياسة فإنها أم المتغيرات ، إن كانت السياسة الداخلية للدول والتى تخضع لتغير الظروف الاقتصادية والمجتمعية والثقافية ومحاور القوى داخل الدولة نفسها أو لغياب زعيم وحلول آخر بعده يغير كل ملامح النظام السابق وأجهزته بل والقوانين التى وضعها سلفه ، والحكومات التى تتداول السلطة حتى فى ظل زعيم واحد تغير ما كانت عليه الحكومات السابقة فى الاداء والمؤسسات والمعاملات الحكومية ، كما أن السياسة الخارجية للدول تتغير بين الفينة والاخرى فى تحالفاتها وتعاطيها مع القضايا الاقليمية والدولية بل وتتغير مع تغير الأنظمة ، ولو نظرنا الى ما حدث فى عالمنا العربى خلال عقد من الزمان فقد جاءت رياح التغيير على اشياء كثيرة ، تنافرت مكونات الدول وتناثرت وتصارعت ، وازدادت حدة الشقاق بينها، كما تغيرت جغرافيا بعض الدول، وبعد ان كانت ثروات البلد بيد الزعيم الاوحد او بيد عصابة واحدة توزعت بين عصابات متناحرة فى نفس البلد …

التحالفات العربية العربية والتحالفات العربية الاقليمية والتحالفات العربية الدولية تغيرت ، وظهر شكل جديد من العلاقات العربية الاسرائيلية سُمّى التطبيع ، والنتيجة أن اسرائيل نالت الحظ الاوفر فى معظم التغيرات فى عالمنا العربى بالقدر الذى – نفسها- لم تكن تتوقعه ، ليكون التطبيع العربى الصهيونى على رأس هذه التغيرات …

أما عالميا ، غياب القطب السوفييتى أدى إلى هيمنة القطب الامريكى الامبريالى وما سُمّى العولمة واطلق عليه أيضا النظام العالمى الجديد الذى تقوده امريكا فى ظل غياب نظام عالمى يقوم على الندية وقد تغيرت موازين القوى لصالح القطب الامريكى الامبريالى …

حتى عندما كان العالم تحكمه قوتان الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة كان خاضعا لتقلبات كثيرة وان كانت أقل مما هى عليه الآن ، ولنا فى مصر ونظام السادات مثلاً عندما كان محسوباً على القطب السوفييتى وانقلب فجأة ليسير فى فلك القطب الأمريكى ويعقد صلحاً مع دولة الاحتلال الصهيونى (معاهدة كامب ديفيد ) ١٩٧٨ ، والتغيير الذى احدثته الثورة الاسلامية فى ايران وفى المنطقة كلها بعد ان كان نظام الشاه المخلوع تابعا مطلقا لأمريكا واسرائيل ومنفتحاً على الغرب يصبح الغرب وامريكا واسرائيل من ألد الأعداء لايران شعباً ونظاماً …

ثم طرأ التغيير الرئيسى على الاتحاد السوفييتى بعد البروسترويكا التى قادها الزعيم السوفييتى غورباتشوف ومن ثمَّ تفتيت مكوناته أنهت تأثير الاتحاد السوفييتى الأقوى عسكريا وأبقت على قوة أمريكا التى قادت البشرية باتجاه النيوليبرالية الجديدة ، والتى تعنى تغول رأس المال الفردى على النظام السياسى والاجتماعى للدول وتوفير الحماية له من الدولة نفسها … ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتى والعالم يشهد تغيرات دراماتيكية ، سقوط أنظمة وزعامات وانهيار دول ومنظمات واندثار جماعات ومؤسسات …

وبرزت اخيراً قوة الصين المفاجئة والتى تفوقتl تكنولوجياً على امريكا واوروبا وأصبحت تنافس أمريكا فى اقتصاد السوق ومن المتوقع ان تنافس أمريكا فى مجالات كثيرة ، والوقائع تقول أن العالم ذاهب إلى حرب أكيدة بين أمريكا والصين بهيئة تختلف فيها عن الحروب التقليدية السابقة …

أما في عالمنا العربي فإن غياب المؤسسات الشورية الحقيقية وغياب الرؤى والاستراتيجيات من أجل النهوض ، وأيضا غياب النظم الثابتة حيث أصبح من السهل ان يتغير الدستور او بنود منه لصالح الحاكم ، مع ان اهل القانون يؤكدون أن وظيفة الدستور هى الحفاظ على قواعد اساسية تسير عليها الدولة تحدد العلاقة بين السلطات الثلاث ( قضائية وتشريعية وتنفيذية ) هذا فى دولة القانون ، ولكن من الطبيعى ان يحدث هذا فى ظل هيمنة الحاكم وتغول السلطة التنفيذية على السلطتين القضائية والتشريعية ، وعندما يتغير المقدس يُستباح كل شئ …

لذا فإن الطموح باتجاه التغيير يحتاج اولا الى إرادة تدفع صاحبها دفعا بلا تردد وإلا لن يحدث التغيير ، والتغيير إما أن يكون إيجابياً بحيث ينتج عنه منفعة للفرد والمجتمع وهذا يرتقى الى حالة نهوض وحصاده مثمر لا محالة ، وإما أن يكون سلبياً والدافع إليه الرغبة والهوى والملل من حالة الرتابة بغض النظر عن نتائجه كما يقول العوام من الناس ” المهم التغيير” وهذا ما يسمى “التغيير من اجل التغيير” وهذا لا معنى له ، أما الربيع العربي بدأته الشعوب نتيجة حاجتها الماسة للتغيير الإيجابي ثم حدث الانحراف بالاتجاه السلبى الحاد الذى كانت نتائجه مدمرة …

والسبب يعود الى أنه بالرغم من وجود ارادة التغيير الا أننا افتقدنا ادارة التغيير وحسن التدبير والتى تمثلها القيادة الحكيمة التى تصوب المسار وتحافظ عليه لتكون نتائج التغيير محمودة …

الأمة الاسلامية على مدار تاريخها مرت فى مراحل متعددة وتغيرت عليها أحوال كثيرة ، إلا أن التهديدات التى كانت تتعرض لها والانتكاسات التى أصابتها والهزائم التى مُنيت بها عبر التاريخ كانت تخرج منها أكثر قوة وأصلب عزيمة واستطاع المسلمون ان يصنعوا حضارة تفوقوا بها على أمم أقدم منهم وجودا مثل القبط والفرس والروم وغيرهم ، لكن تميزت الامة الاسلامية أنها امتلكت عقيدة من أسمى مهامها بناء الذات وتزكية النفس الانسانية التى هى أصل التغيير ، انبثقت منها شريعة حددت العلاقة بين حياة البشر الدنيوية وقانون السماء الالهى ، ومن الطبيعى بعد ذلك ان ينبثق عن العقيدة والشريعة نظام حياة متكامل وسوىّ ليكون التغيير باتجاه التطور والنهضة فى ظل استثمار كل ما سخره الله للانسان من عقل ومادة ومن ثَمّ تقدير العلم والعلماء وكان من الطبيعى أن تخرج الأمة من كبواتها بسبب تأثير ما أطلق عليه الدكتور المفكر فتحى الشقاقى رحمه الله ( قوة الدفعة القرآنية ) ولكن الانهيار حدث بعد غياب الخلافة(السلطان) وحالة التغريب والتبعية والتجزئة التى تعرضت لها الأمة الاسلامية والتى نخرت فى عظامها …

فإن معظم حالات التغيير التى تعرضت لها الأمة منذ ذلك الحين لم تُخرجها من حالة الضياع والبؤس والشقاء التى عاشتها منذ ما يقارب القرن من الزمان والى يومنا هذا، لأنها فقدت عناصر قوتها الحقيقية المنبثقة عن عقيدتها ، لذا تراجعت وضلّت الطريق، فى المقابل كثير من دول العالم فى العصر الحديث تعرضت لدمار كبير ، حرب اهلية فى امريكا عام ١٨٦١م -١٩٦٥م وهى الأكثر دموية فى تاريخ الولايات المتحدة الامريكية اكلت الاخضر واليابس وبعدها اصبحت أمريكا اقوى دول العالم ، دُمرت اليابان فى الحرب العالمية الثانية ونكسة فظيعة فى هيروشيما ونجازاكى لكن خرجت من بين الركام لتكون من اوائل الدول المتقدمة صناعيا فى العالم كما أوروبا دمرت على بكرة ابيها وقُتل فى الحرب العالمية الثانية كما يقول المؤرخون ما يقارب سبعون مليونا من البشر ونموذج المانيا التى تعرضت فى الحرب العالمية الثانية لدمار كبير وانقسام الى شرقية وغربية لكنها بعد ذلك نهضت من كبوتها واصبحت من أولى الدول المتقدمة صناعيا وعلميا واقتصاديا فى العالم كما كل دول اوروبا التى دبت فيها الحياة من جديد لتصبح المتحكمة فى اقتصاد العالم الثالث كله.

وأخيرا برز نجم أندونيسيا الدولة الاسلامية الوحيدة التى خرجت من حالة البؤس والفقر والجهل لتصبح واحدة من النمور الاقتصادية فى العالم والتى شهدت نهضة إقتصادية كبيرة خلال العقدين الماضيين على يد الزعيم مهاتير محمد ، كل هذا يعود الى إرادة التغيير يصاحبها ادارة التغيير السليمة ، وهنا تبرز حاجة الدول الى القيادة الحكيمة التى تتحمل المسؤولية وتصوّب المسار ، تحمل انتماءً حقيقيا للأمة التى أنجبتها …

ما تفتقده الامة الاسلامية والعربية للتوجه نحو التغيير الايجابى والريادة انما هى القيادة الحكيمة والمخلصة التى تنتمى الى عقيدة الامة وترابها وتراثها وتحمل همومها وآلام شعوبها تتسلح بالارادة القوية للانعتاق من ربقة الهيمنة الامريكية والغربية التى تتحكم فى مقدراتنا وثرواتنا و قراراتنا ، أمتنا لا ينقصها شئ من مقومات القوة والنهوض واستعادة التأثير من جديد ، انها تمتلك العقيدة والتاريخ والحضارة والتعداد البشرى والجغرافيا المترامية الأطراف والثروات والعقول الراقية التى يفتح الغرب لها أبوابه …

تمتلك أمتنا ما لم تمتلكه امريكا ولا أوروبا ولا الصين ، هذه القوى ليس لديها ما لدى امتنا من مقومات الحضارة والقوة مجتمعة ، لكنها متفوقة وتقود العالم وتقرر وتفعل ما تريد ، فيما الأمة العربية والاسلامية تعيش التبعية والانهزام والذل ، ولا يمكن أن تنهض الأمة من جديد وتتغير الحال التى تعيشها للأفضل ، إلا أن تحقق شرطاً مهما وضرورياً وهو بناء الذات وصناعة الانسان المسلم الحقيقى من جديد وفق منهج خالقه ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ” صدق الله العظيم …