في ضيافة الجراح

في ضيافة الجراح

في ضيافة الجراح

 

لواء د/ رفيق أبو هاني

 

الباحث في الشؤون الاستراتيجية والعسكرية

 

قبل أيام كنا في جولة زيا رات لجرحى معركة سيف القدس المباركة في مستشفى الشفاء بغزة، برفقة قادة مجاهدين وجنود مخلصين من القائمين على ملف الجرحى الذين عزموا أمرهم للوقوف جنبا إلى جنب مع أصحاب المسك ودماء الطهارة، التي نزفت على أرض فلسطين المباركة وفي باطنها …

 

 

إن مثل هذه الزيارات مهمة لمثل هؤلاء العظماء من أبناء شعبنا الفلسطيني الصابر، ولقد وقع في روعي أثناء الزيارة حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( فكوا العاني وأطعموا الجائع وعودوا المريض ) ففي هذا الحديث يتساوى من يزور مريضا بأجر من يفك الأسير من قيوده وأغلاله، فكيف لو كان هذا المريض جريحا مجاهدا في سبيل الله تعالى ؛ فهذا بالتأكيد سيكون له الشأن العظيم عند مولانا جل جلاله
لقد سرنا في أروقة المشفى وأقسامه المتعددة فسمعنا ورأينا …

 

 

نعم سمعنا ما يثلج الصدور من كلمات الثبات والصبر والصمود والتحدي، فترى أحدهم يقول لنا : إنني على شوق للمعركة القادمة؛ لأنه صار بيني وبين الصهاينة دم ، فهو الثأر الذي يتلظّى في صدره ليجعل منه قوة دافعة كما صاروخ المقاومة الجبار؛ ليخوض المعركة القادمة مع الصهاينة المجرمين بكل إقدام من جديد …

 

 

وسمعنا آخر وقد ساقه الممرّض على الكرسي المتحرك نتيجة استهداف صهيوني حاقد من الطائرات، وقد استشهد معه شقيقه في نفس الحدث ، فاستقبلنا وهو يحمد الله تعالى ويقول : لقد اتخذ الله منا شهيدا واصفاني جريحا …

 

فيا لعظمة الصمود التي تجسدت في هذه الكلمات …

تابع أيضاً في ضيافة الجراح

وآخر يجيبنا عن سؤال قد وجهناه له بعدما انتهت الزيارة عن المعنويات، حيث تم استهداف النفق الذي كان قد نزل به في عملية بطولية لينقذ مجاهدا من إخوانه ، حيث تم استهدافه بأعتى الطائرات والقنابل في العالم، فقال البطل مصابرا : والله لن يزيدني ذلك إلا عزم وإصرار على مواصلة الطريق…

 

 

فوالله وكأنها قد تجلت أمامنا الآية الكريمة : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة …) ( إبراهيم : 27)
فهذا ماسمعناه من المصابين الذين لا يزالون بوعيهم، ولكن كان هناك آخرون فقدوا وعيهم وهم يصارعون الموت تحت أجهزة التنفس والعناية المكثفة، فأما هؤلاء فلم تكن بيننا وبينهم إلا لغة العيون، فقد شاهدنا شبابا بعمر الزهور حيث يقاتل الفريق الطبي لإبقائهم في حياتنا الزائلة هذه …

 

 

ولقد تساءلت في نفسي، ما الذي يجعل مثل هؤلاء الشباب، وهم في مقتبل أعمارهم حيث المتعة وقوة الشهوة ومتاع الدنيا، فيتركون كل ذلك ويقبلون على درب الجهاد في سبيل الله تعالى راضية نفوسهم بما سيصيبهم … ؟؟

 

 

إن معظم الشباب والفتيان في مثل أعمارهم في دولنا العربية ينفقون أوقاتهم وأموالهم في مغامرات الصيد والسباقات في الصحارى والغابات بسياراتهم ودراجاتهم ، أو إنهم يمضون الليالي والأيام في ألعاب الببجي وغيره من الملهيات …

 

أو إنك لتجد أكثرهم يضيعون اعمارهم يلهثون خلف محادثة مع صبيّة على مواقع التواصل، فيبقى الواحد منهم خلف شاشة هاتفه حتى ساعات الليل المتأخرة ، وهل هذا يربي جيلا لتحرير البلاد والعباد ؟؟؟

 

لله دركم يا أبطالنا لقد عزفتم عن كل ذلك وتوجهتم بجهادكم ودمائكم فصدقتم السبيل فصدقكم الله تعالى فاختاركم لتكونوا الحماة والكماة لمسجده المبارك وكأنهه يتجلى قول الله تعالى : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ).

 

ولقد رأينا في زيارتنا تلك أيضا شيوخا وأطفالا ونساءً قد استهدفتهم طائرات الغدر الصهيونية؛ لتكسر إرادة شعبنا الفلسطيني الأبي لينفضّ عن مقاومته الباسلة ، ولكن الأمور سارت على عكس ما خطط له المحتل الغاصب، حيث ازداد إصرار شعبنا تمسكا بخيار المقاومة المسلحة سبيلا لتحرير أرضه ومقدساته، وكأنهم يتمثلون قول نبينا صلى الله عليه وسلم ” لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، ولا ما أصابهم ، حتى يأتي وعد الله وهم كذلك، قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس “.

 

لقد جسّدت مثل هذه الزيارات أهمية كبيرة بالنسبة لنا ولمن زرناهم من جرحانا البواسل، وإنني كمهتم في يخص شؤون الجهاد والقتال في سبيل الله تعالى أرى في مثل هذه النفوس تعاليا على الجراح؛ فيزداد منسوب الروح المعنوية التي تعد أحد الأركان الثلاثة الأساسية لبناء الجيش، وتمثل ركيزة النصر في المعركة العسكرية حيث عدّ الخبراء العسكريون هذه الأركان بالتدريب والتسليح والروح المعنوية، فهذه الأمور مما يجب الحفاظ عليها وتعزيزها  بكل ما أوتينا من قوة …

 

كما إن مثل هذه الزيارات تعزز من صمود جبهتنا الداخلية وتقوّيها، وتجعلها كتلة واحدة مع مقاومتها الباسلة ، فمن القواعد الأساسية لحرب العصابات التي ما زالت تنتهجها كمقاومة فلسطينية أنها تعتمد على العلاقة المتينة بين المقاتلين والشعب بكافة أطيافه، وهذا ما تم تجريبه سابقا في حروب التحرير الشعبية، التي اعتمدت حرب العصابات كمنهج مثل: فيتنام والجزائر وغيرها كثير…

 

ثم انتهت هذه الجولة المباركة ، وبقي كل من على عزمه بأن نواصل طريق الكفاح والجهاد كل من موقعه كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم ( جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم ) وستبقى هذه الراية مرفوعة حتى ينجلي الاحتلال عن أقصانا وأرضنا المباركة بعون الله تعالى.

 

 

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
غزة – فلسطين
29/5/2021م