نظام عالمي جديد
أدى نشوب الحرب العالمية الأولى إلى تأسيس نظام عالمي يستفيد من أخطاء المرحلة السابقة التي وضعت أسسها في اتفاق روما، واتفاقات برلين في أواخر القرن التاسع عشر، فتأسست عصبة الأمم في عام 1919م التي عكست موازين القوى الدولية آنذاك. وإن كانت عصبة الأمم أكثر تنظيماً ومؤسسيةً من الحال السابق، إلا إنها حافظت على استحواذ القوى الكبرى على المؤسسة الدولية الجديدة، وهو الأمر نفسه الذي حصل نتيجة وقوع الحرب العالمية الثانية، ومن ثمَّ تأسيس نظام عالمي جديد اسمه: هيئة الأمم المتحدة.
لقد عكست هيئة الأمم المتحدة موازين القوى الدولية منذ تأسيسها في عام 1945م. تقريباً هي ذات القوى الدولية التي هيمنت على العالم وعلى الوضع الدولي في المرحلة السابقة. لقد حرصت هذه الدول الكبرى على تمييز نفسها باحتكارها حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، فيما يشبه الوصاية على النظام العالمي. ورغم أن الأمم المتحدة أكثر تنظيماً ومؤسساتياً من عصبة الأمم، إلا أن عوامل فشلهما متشابهة، ربما لسبب بسيط: هو هيمنة الدول الكبرى ذاتها على هذين النظامين الدوليين.
ومنذ تأسيس الأمم المتحدة، برزت كتلتين متنافستين داخل هذا النظام الدولي، هما: الكتلة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفييتي، والكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. وبانهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991م، انفردت الولايات المتحدة في بسط نفوذها على العالم، سواء من داخل الأمم المتحدة، أو من خارجها، مما جعل البعض يعتبره نظاماً عالمياً جديداً، اسمه: نظام القطب الواحد، حيث تتحكم الولايات المتحدة في قرارات الأمم المتحدة نسبياً، وتنفِّذ الكثير من خططها على الساحة الدولية بعيداً عن الأمم المتحدة، ودون وجود قطب آخر ينازعها أو يشل يديها.
أثبتت الولايات المتحدة عبر الثمانين سنة الماضية، أنها لم تكن جديرة بزعامة العالم، ولا مؤتمنَةً على القانون الدولي، التي عادةً ما كانت تتجاوزه وتخرقه بنفسها كلما تعارض مع مصالحها. جاءت معركة طوفان الأقصى في عام 2023م لتكشف الوجه القبيح للنظام الدولي الممثل في الأمم المتحدة، ولنظام القطب الواحد الممثل في الولايات المتحدة، ولتكشف هشاشة القانون الدولي، وتبعيته للقوى العظمى ومصالحها.
كشفت معركة طوفان الأقصى أن العالم ما هو إلا غابة، يأكل فيها القوي الضعيف، وظهرت الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً متحديةً القانون الدولي، ومارقةً على الاتفاقات الدولية، ومبتزةً للدول الضعيفة، ومتحكِّمةً بها، ومشاركةً بقوة في حرب إبادة جماعية للشعب الفلسطيني، غير آبهة بقانون، ولا عدالة، ولا حقوق، ولا إنسانية.
انكشاف سوءة العالم “المتحضِّر”، وفشل المنظومة الدولية عن إحقاق حق أو إبطال باطل، يضعنا أمام مفترق طرق نحو نظام عالمي جديد ومختلف.
ملامح النظام العالمي الجديد:
- وضع وثيقة دولية كدستور للنظام العالمي الجديد، يلتزم القيم العليا المشترَكة بين الأمم كأساس للقانون الدولي.
- استبعاد أية مؤسسة مشابهة لمجلس الأمن الدولي، فجميع أعماله تستطيعها الجمعية العامة أو المؤسسة الكبرى التي تضم الدول المشتركة.
- الاهتمام يجب أن يَنصبّ على رفاهية الشعوب، ومنع الحروب.
- عدم التدخل في ثقافات الشعوب وقيمها الخاصة.
- عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول ما لم ترِد النظام شكوى خاصة تستدعي التدخل عبر آليات وأدوات تقرها الدول المشتركة وبشكل ملزِم.
- لكل دولة حقوق، وعليها واجبات تجاه هذا النظام. ويجب تحديدهما عبر التفاهم الدولي.
- وضع نظام عقوبات فعّال ورادع لمنع التجاوز على وثيقة النظام وقراراته.
- معالجة مسألة المساواة بين الدول، بما يراعي العدالة من جهة، والحقوق والواجبات من جهة، وحجم الدولة من حيث عدد سكانها ومواردها من جهة ثالثة.
- وضع نظام يستند إلى الأغلبية الساحقة لفض النزاعات المسلحة بين الدول وحماية الشعوب من تسلط القوى المسلحة الخارجية والداخلية، بما يكفل مشاركة متكافئة من الدول، وتدخل حاسم يستند إلى قانون دولي عادل.
- منع الدول من إنتاج أسلحة دمار شامل، ومعاقبة الدول التي تتورط في انتاجها، ووضع نظام لتشجيع الدول لتوجيه طاقاتها الصناعية نحو رفاهية الشعوب.
لقد نشأت “إسرائيل” من رحم النظام العالمي في صورته المشوهة خلال المائة سنة الماضية، وإن زوالها سيكون مدخلاً لنشوء نظام عالمي جديد لا مكان فيه لمن يرون أنفسهم فوق البشر.