مركز الشرق للأبحاث و الثقافة

عاصفة القائد أبو عاصف

عاصفة القائد أبو عاصف

عاصفة القائد أبو عاصف

بقلم/ أيمن تيسير دلول

كاتب وإعلامي فلسطيني

 

تحلقَّ أطفالي الصغار من حوالي يشاهدون الجماهير التي جاءت من مدن وقرى ومخيمات الضفة لتنال شرف رفعه على أكتفاها، علت الهتافات وارتفعت الصيحات وتزاحمت أقدام الرجال والولدان والشيوخ تلوحُ بالرايات لتصنعَ بظلالها غيمةً فوق جسده المسجى لعلها تريحه من طريقٍ لم يبحث فيها عن رخصةٍ لكبرِ سنه وكثرةِ مشاغله ففضلَ العزيمةَ بعدما وجد الرجال تراجعت همتها أمام سطوة الجلاد من المحتل أو آخرٍ يتنفسُ هواءً لبلادنا كان نقياً قبل جراثيمٍ علقت فيه منذ سبعين عاماً ولا تزال.

 

قرأتُ في عيون أطفالي أسئلة حائرة: من يكون هذا الرجل؟ ولماذا كل هذه الناس تبكي؟ ومن أين جاؤوا؟ ولماذا دموعك كلما جففتها نزلت حارةً مرةً أخرى؟ لماذا هذا الاهتمام يا أبانا؟
أشفقتُ على أطفالي واقتربتُ منهم وبدأتُ أقصُ عليهم حكاية رجلٍ من زمن البطولة والفداء، رجل من ذاك الزمن الذي كان يدرك سارق بلادنا جيداً أن في “كوبر” رجلاً يقفُ من وراء رجالٍ صقور لا يقبلون تدنيس تراب فلسطين.
كانوا يدركون أنه من “كوبر” صحيح، وكانوا يعلمون أنه لا يمكن إلا أن يكون من عائلة البرغوثي، ليدركوا أخيراً أنه ذاك الرجل الأشم الشامخ عمر البرغوثي “أبو عاصف” لكنهم بحثوا في شوارع وأزقة “كوبر” فلم يجدوه قد ترك بصمةً واحدةً ترشد الظُلامَ إليه.

 

اعتقلوه سبعة عشر مرة أمضى منها ثلاثة عشر عاماً في العزل الانفرادي وحيداً، حفرت سياطهم أخاديدها على جسده ولكنها لم تنتزع منه معلومة كانت تتمنى ( دولة ) بأكملها “إسرائيل” أن تكتب في أرشيفها أنها دونت انتصاراً ذات يوم بهزيمة لأحد جبال فلسطين الشامخين.

 

تابع أيضاً في مقال عاصفة القائد أبو عاصف

أدرك “أبو عاصف” أن الأسرى بحاجة لكل جهد كي نخفف من صرخاتهم وآلامهم في سجون المحتل الغاصب، فوقف على دوار المنارة وسط رام الله باستمرار، كان يصيح بأعلى صوته على المارةِ في الطريق “هل سنقول للأسير ثمنك فقط يافطة؟ ثمنك ألا نستطيع أن نزرع شجرةً باسمك؟”، وكأنه عمود الخيمة اجتمع حوله من قتلت ( إسرائيل ) والده أو هدمت بيته أو حرمته من أبنائه فغيبتهم خلف السجون، لقد وجدوا فيه المصداقية وهو الرجل الذي له الابن الشهيد واثنين من الأسرى وشقيقه أقدم أسيرٍ في العالم، أما هو فهدم الاحتلال بيته أكثر من مرة، وهو وهو.. سنظلم القلم إن طلبنا منه أن يكتب كل شيءٍ في حضرته.

 

لفظَ أنفاسه العاصف أبو عاصف فبدأت تتكشف تفاصيل الحكاية لتعلن كتائب القسام أنه كان أحد مؤسسيها في الضفة الغربية والمشرف العام على العديد من خلايا كتائب القسام من أيام الزمن الجميل، التي كان منها خلية القائدين عماد وعادل عوض الله وهي الخلية التي اعتبرها قادة الاحتلال إحدى أخطر الخلايا على كيانه الزائل، بل إنه كان المشرف المباشر على عمليتين قام بها أبناؤه وقد أدت لقتل جنود الاحتلال والمستوطنين لكن المميز فيها أنه طلب من ابنه أن يدوس بقدمه على رؤوس جنود الاحتلال وقد عمل بوصية والده وأمام كاميرات الاحتلال قبل أن يمضي وترك سهماً في قلب نتنياهو الذي ظن يوماً أن الضفة الغربية قد استجابت لنداء التنسيق والتعاون الأمني.

 

لفظَ أبو عاصف أنفاسه ولم يدرِ أن لموته سيكونُ حكايةً أخرى لا تختلف عما قبل الممات، فمن تحت الرماد استيقظ المارد الذي واجه الاحتلال على مدار سنوات، وفي جنازته صدحت حناجر الشباب بالهتافات التي غابت عن الميدان كثيراً، فمع عظمته محمولاً فوق أكتاف الرجال الذين كان الحضن الدافئ لهم كلما أظلمت الدنيا في وجوههم.
انطلقت عبارات: حط السيف فوق السيف .. احنا رجال محمد ضيف، وهي كلماتٌ سيكون لها ما بعدها، وحشود راهن الكثيرون على انكسارها فجاءت صادمةً لمن منعتهم خيانتهم وتنسيقهم مع المحتل الصهيوني على المشاركة في مسيرةٍ فتحت فيها “كوبر” أبوابها كافةً لأطفالٍ وشبابٍ يحلمون في كلِ ليلةٍ أن تعود أيام المجد التليد التي رسم بعضها شيخ فلسطين أبو عاصف.

 

ويشاء الله أن تكون جنازته على مشارف الانتخابات التشريعية الفلسطينية لتؤكد هذه الجماهير على توجهاتها جيداً وتكشف عن رغبتها المقبلة في أكبر استطلاع للرأي العام يعبر إلى مستوى بعيد عما يختلجُ في صدور الفلسطينيين المقهورين بظلم الاحتلال أو المتعاونين معه حمايةً له على حساب أهل الأرض والحق.

 

ذهب أبو عاصف إلى حيث الراحة التي كان يحدثنا عنها، لكنه ذهابٌ لن يجعلنا ننسى وصيته بأننا سنرفع علم فلسطين فوق القدس ويافا ولن ننسى صفد التي تنازل عنها البعض، بل عيوننا إليها ترنو ولن يكون منا من يسلمها لمحتل غاشم مهما كان الثمن.

 

يستحق أبو عاصف هذه الجنازة، ويستحق هذه الحفاوة، ويستحق هذا التكريم، لكنه لو عادَ فينا لصدح بأعلى صوته قائلاً: هل كنتم تنتظرون موتي كي تقوم قيامتكم في شوارع بلادنا المحتلة بهذا الشكل؟ اجعلوها قيامةً دائمة وابحثوا في مغارات وجبال الضفة فستجدون أسلحةً حفظتها لكم بين صخور بلادنا السليبة، امسحوا الرمال عنها وأحيوها من جديد كي لا تُداسَ رقابكم من سفلة الاحتلال وأعوانه.