مركز الشرق للأبحاث و الثقافة

السودان وصراع القُوى

السودان وصراع القُوى

السودان وصراع القُوى

بقلم/  د. أيمن إسماعيل 26/10/2021م

 

إن الموقع الجغرافي لبلاد الكوش جعل من السودان دولة محورية، ليس في القارة الإفريقية فحسب وإنما في الشرق الأوسط ككل؛ فبخلاف الشريط الساحلي الممتد على البحر الأحمر الذي يوصلها بالحدود المائية لفلسطين المحتلة في العقبة، فإن للسودان حدود برية مع ليبيا يعطيها إطلالة على شمال القارة، وجعل لها دورًا في الصراع الليبي، وقد نشطت سودان البشير في دعم الإسلاميين على حساب معسكر “حفتر” بالسلاح والتدريب، كما أن للسودان حدود برية مع التشاد التي كانت إحدى مستعمرات فرنسا التي لاتزال تحافظ على وجودها في أفريقيا الغنية بالذهب والماس والمعادن، إضافة إلى أن السودان دولة مصب للنيل بفرعيه الأبيض والأزرق اللذان يلتقيان في الخرطوم في رحلة الطريق إلى أرض الفراعنة؛ وهذا ما يضعها في محور قضية العصر لأفريقيا “سد النهضة الأثيوبي”، بخلاف أن السودان عمق استراتيجي لمصر جغرافيًا وتاريخيًا.

 

بتخطيط من الراحل الدكتور حسن الترابي سيطر الإسلاميون على مقاليد الحكم في السودان من خلال الإنقلاب العسكري الذي قاده عمر البشير عام 89، ولم يسلم أهل الشريعة بعدها من الأزمات المصطنعة: من حظر اقتصادي إلى خلق أزمات وقود وسلع رئيسية شبيهة بما يحدث في لبنان اليوم؛ تقويضًا لقوى المقاومة فيها، إلى جبهات القتال التي فتحت على مصراعيها في الجنوب وفي الشرق وفي الغرب، حتى أمسيتَ تطوف في أسواق العاصمة فلا تجد إلا النساء، بينما يقاتل الرجال على الجبهات. ورغم الأزمات حافظت السودان على وجهها الإسلامي، ولم تعط الدنية، فقد آوت “بن لادن” و”مشعل”، واحتضنت الفلسطينيين بمنظمة التحرير وبلاجئي الكويت بعد أزمة العراق، وبإيوائها لمطاردي غزة أوائل التسعينات، وأخيرا بدعمها لحماس بالمال والإمداد والتدريب وبما لا يتسع الحديث عنه في هذه الكلمات، وفتحت أبواب جامعاتها للأفارقة ولطلبة دول شرق آسيا؛ لتعلُّم الشريعة الإسلامية واللغة العربية.

تابع في السودان وصراع القُوى

السودان وصراع القُوى

وضعت الحرب أوزارها في جنوب السودان عملًا باتفاقية نيفاشا 2005م التي أعطت شعب الجنوب حق التصويت؛ استفتاءً على الإستقلال والانفصال عن السودان الأم بعد 5 سنوات من وقف النار، وكان لهم ما أرادوا، وهذا ما أوقع الشمال وحكومة البشير في ضائقة إقتصادية؛ بفقدان موارد الجنوب ومنها النفط، فكانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير، لتتردى قيمة الجنيه السوداني أمام الدولار الأمريكي ولتتردى معه الأحوال المعيشية للمواطن السوداني، الذي خرج يطالب بالتغيير بعد ما يزيد عن عقدين من حكم البشير وما صاحبه من ازمات، وصحيح أن النظام استطاع فرض السيطرة على مظاهرات 2011 و 2013 التي خرجت متأثرة بثورات الربيع العربي، إلا أن النظام فشل في إخماد ثورة ديسمبر 2019 وأُسقط المشير البشير بعد حكم دام ثلاثة عقود.

 

على الرغم من تنازل تلامذة البشير المسيطرين على مفاصل الدولة، خاصة الجيش وقوى الأمن، والتظاهر بالانتقال إلى مربع التطبيع مع “إسرائيل” والتنصل من دعم حماس التي تمثل رأس المقاومة الفلسطينية، وإلغاء العمل بقانون النظام العام الذي كان يمثل الوجه الإسلامي لتشريعات النظام، بعد الاتفاق على تقاسم السلطة في الفترة الانتقالية؛ إرضاءً لقوى إقليمية، إلا أن القوى المضادة “شيوعيين وليبراليين” أرادت الإقصاء الكلي لكل ما له صلة بنظام البشير، من خلال لجنة “إزالة التمكين”، ومن خلال تأجيج الشارع والطعن في مؤسسات سيادية كالجيش، ولعلها استعجلت أكل طبق البيتزا قضمةً واحدة؛ فاختنقت بإجراءات البرهان حميدتي الإقصائية بحق المكون المدني للذي يمثلها، والذي اُعتبر انقلابًا على الوثيقة الدستورية المنظمة للفترة الانتقالية.

 

ما يحزن في الحالة السودانية، أن الشعب السوداني يطالب بالتغيير؛ في سبيل بناء دولة مدنية ذات اقتصاد يكفل استثمار الموارد ويضمن رفاهية المواطن، ولكن دون الارتكاز على قوى ثورية نظيفة ومخلصة ومتجردة لخدمة البلاد والعباد، والأسلم في هذه الحالة أن ينتج السودان أحزابًا سياسية جديدة بأيديولوجيا تتناسب مع طباع وأخلاق الشعب السوداني المحافظ، وبقيادة شخصيات لديها كاريزما وحضور اجتماعي ولديها بعد نظر سياسي واقتصادي، ويمكن للإسلاميين القيام بهذه الخطوات، ولديهم المقومات التي تسمح بتنفيذ خطط إصلاحية شاملة في الدولة بشخصيات ووجوه جديدة تكون مقبولة للشارع وتحت مسمى حزبي جديد، وبحيث تستطيع بلوغ الشرعية من خلال صندوق الاقتراع الذي يفترض أن يكون الحكم والفيصل للخروج من عنق الزجاجة.