مركز الشرق للأبحاث و الثقافة

تَحريـــرُ بَيـْـتِ المَـقْـدِس

تحرير بيت المقدس

تَحريـــرُ بَيـْـتِ المَـقْـدِس

(وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرة)

——————————-

بقلم / د. نصر فحجان

 

إنَّ المهمة الثانية للعباد الذين يبعثهم الله تعالى في وعد الآخرة، بعد إساءة وجوه اليهود، هي تحرير بيت المقدس من إفساد بني إسرائيل الثاني والأخير: (وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرة).

 

 

ويمكنني هنا الوقوف عند أمرين:

 

أولاً: (وليدخلوا المسجد):

إنَّ المُراد بالمسجد هنا هو (المسجد الأقصى) الذي كان الإسراء إليه، ومنه كان العروج إلى السموات، فهو بيت المقدس، ومركزية الطهارة، وهو الذي بارك الله فيه وحوله، فكانت فلسطين هي الأرض المباركة، وهي الأرض التي أفسد بنو إسرائيل فيها مرتين، وعَلَوْا عُلُوًّا كبيرًا.

 

وقد أُخِذت هذه القدسية من قدسية المسجد الأقصى وطهارته، وإنما سميت مدينة القدس ببيت المقدس – كما في الأحاديث الصحيحة – لوجود بيت الله (المسجد الأقصى) فيها، وقد حظيت بهذه القدسية فأصبحت بيتًا للقداسة والطهارة، وهي المسجد.

 

– يقول أبو الفرج بن الجوزي في زاد المسير: (وليدخلوا المسجد) يعني بيت المقدس.

 

– ويقول البغوي في معالم التنزيل: (وليدخلوا المسجد) أيْ بيت المقدس ونواحيه.

 

– وكذلك قال ابن عجيبة الحسني، والسمرقندي، وأبو بكر الجزائري ، والزحيلي ، وغيرهم.
وإنّما يدخل هؤلاء الداخلون للمسجد الأقصى والمدينة المقدسة (بيت المقدس)، دخولَ الفاتحين المحررين، ليُعلنوا سقوط الإفساد الإسرائيلي في كلِّ الأرض المباركة (فلسطين) بإذن الله تعالى.

 

وكأنّي أراهم الآن، وأسمعهم وهم يهتفون، كما هتف النبيُّ صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة فاتحًا منتصرًا: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا).

 

ثانيًا: (كما دخلوه أول مرة):

 

 

إنَّ الآية تصف شكل هذا الدخول للمسجد الأقصى، والمدينة المقدسة (بيت المقدس)، فهو ليس مجرَّدَ دخول، بلْ إنَّه دخول كالدخول الأوَّل في الإفساد الأوَّل: (كما دخلوه أوّل مرة).
وحرف الكاف في قوله تعالى: (كما دخلوه أول مرة) جعلنا نستحضر شكل الدخول الأوَّل، وطريقته، ونتائجه، فهما صورتان متشابهتان.

 

يقول الطاهر بن عاشور: (ودخول المسجد دخول غزو بقرينة التشبيه في قوله تعالى: (كما دخلوه أول مرة) المراد منه: فجاسوا خلال الديار.
وهنا نسأل: كيف كان الدخول أوّل مرة؟

تابع تَحريـــرُ بَيـْـتِ المَـقْـدِس

يقول الله تعالى: (فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولًا)، فَلْنتدبَّر الآية من جديد لنقف عند بعض المعاني والإشارات، فنستدلَّ من خلالها على كيفية دخول المسجد في المرَّة الأولى:

 

الإشارة الأولى: (بعثنا عليكم):

 

نجد في كلمة (عليكم) معنى العلوّ والغلبة والاستحواذ والقهر والسيطرة، كما في قوله تعالى: (ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون)، فهم عباد لله مبعوثون على بني إسرائيل، وليسوا مبعوثين لبني إسرائيل، أو إلى بني إسرائيل، وهذا يوحي بأنَّ الدخول كان فيه استحواذٌ وسيطرة، وغلبة وتحكّم، وهو نفسه ما سيكون في الدخول الثاني بإذن الله تعالى.

 

الإشارة الثانية: (عبادًا لنا):

 

فقد جاء التعبير القرآني دقيقًا جدًا، ليحمل إلينا المعنى المراد من الله تعالى دون لبس أو غموض، فهؤلاء عبادٌ لله مأمورون من الله تعالى، وهم جندٌ من جنوده، ينفذون قضاءه، ويحقِّقون وعده، ولا مكان للتردد، أو الخوف، أو التراجع في تنفيذ أمر الله تعالى بالقضاء على إفساد بني إسرائيل في الأرض المباركة (فلسطين).

 

الإشارة الثالثة: (أولي بأس شديد):

إنهم عباد لله أشدَّاء أقوياء، يمتلكون من الشجاعة والجسارة والجرأة ما يجعلهم جديرين بأن تُسند إليهم مهمة القضاء على العلوِّ الكبير الذي كان عليه بنو إسرائيل في إفسادهم الأوّل، فلا خوف يحجزهم، ولا تردُّدَ يمنع تقدمهم، بل يندفعون كالأسود نحو مهمتهم وأهدافهم.

 

فالدخول لا بُدَّ أنّه كان دخولًا قويًا من قوم أقوياء أشداء، لم يقْوَ على دفعهم أو ردِّهم بنو إسرائيل برغم عُلُوِّهم الكبير، وهذا من آيات الله الكبرى أنْ ينتصر عبادٌ لله أولو بأس شديد على بني إسرائيل بالشجاعة والإقدام، لا بالأسلحة المتطورة، ليتحقق بذلك أنَّ الفئة القليلة يمكن أنْ تهزم الفئة الكبيرة بإذن الله تعالى .

 

وهو نفس ما سيحدث في الدخول الثاني لبيت المقدس بإذن الله تعالى، فيكون إعلانًا للفتح والتحرير، وزوال (إسرائيل) .

 

الإشارة الرابعة: (فجاسوا خلال الديار):

 

إنَّ الجَوْس فيه معنى التردد ذهابًا وإيابًا، بهدف التفتيش والفحص والتقصِّي، وإنما يحدث هذا الجوس من أولي البأس الشديد وهم يدخلون المدينة المقدَّسة، يفتِّشون خلال الديار عن المختبئين من بني إسرائيل، لقتلهم، أو أسرهم، أو معاقبتهم، أو طردهم.

 

فهم لم يكتفوا بمقاتلة مَن يقاتلهم، بل كانوا يجوسون بين الدّيار والأزقَّة، والبيوت والشوارع، بحثًا عن كلِّ من ينتمي لدولة اليهود من الرجال والنساء، لئلا يكون لهم أملٌ في البقاء في الأرض المباركة، فيُفسِدوا من جديد.

 

إنَّنا نستطيع إذنْ أنْ نتخيَّل كيف كان الدخول في أوَّل مرَّة، فنعرفَ أنَّه كان دخولاً عنيفًا وقويًا، فيه علوٌّ، وسيطرةٌ، وقتلٌ، وسبْيٌ، ونفس الأمر سيحدث في وعد الآخرة ، وسيبعث الله على اليهود عبادًا له أشداء أقوياء أُولي بأس شديد، وسيدخلون المدينة المقدَّسة كما دخلوها أوَّل مرة (وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة)، وسيجوسون خلال الدِّيار كما جاسوا في أوَّل مرَّة، وسيقتُلون ويسْبُون ويأسرون كما فعلوا في المرَّة الأولى بإذن الله تعالى.

 

ومعلوم أنَّ الذين دخلوا المدينة المقدَّسة في أوّل مرّة هم البابليُّون بقيادة الملك نبوخذ نصَّر، فقَضَوْا على فساد بني إسرائيل، وعلوِّهم الكبير في سنة 586 ق. م.

 

ولا يغيبَنَّ عنَّا أنَّ البابليِّين هم قبائل عربية هاجرت من الجزيرة العربية، واستقرَّت في العراق، ثم انتشروا في بلاد الشام أيضًا، ممَّا يُرجّح أنَّ العباد الأشدَّاء المبعوثين على بني إسرائيل في وعد الآخرة الحالي هم عربٌ، ومن أصولٍ عربية، وفي نفس الوقت هم الآن مسلمون، ينتهجون الإسلام في حياتهم، ومقاومتهم، ويُقارعون الكفر بأشكاله، ويتحدَّوْن قوى الكفر التي تدعم وتساند (إسرائيل) منذ تأسيسها، وهم رجال المقاومة الفلسطينية الذين سيدخلون بيت المقدس فاتحين محرِّرين قريبًا بإذن الله تعالى، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.