مركز الشرق للأبحاث و الثقافة

وقفات وإضاءات رمضانية

وقفات وإضاءات رمضانية

*وقفات وإضاءات رمضانية*

 

بقلم: أ. كائنات محمود عدوان

 

يمر علينا شهر الصيام كل عام بنفحاته الروحانية، التي لا تكاد تنتهي، يزورنا الضيف الثلاثيني على عجل، حيث يخاطبنا الله سبحانه في قرآنه قائلًا: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 184].

 

 

هي إذن أيام قليلة نبهنا القرآن إليها بوصفه لها ب﴿ مَعْدُودَاتٍ ﴾؛ أي: قلائل أو مؤقتات بعدد معلوم[1]، فشهر الصيام يتعجل بالرحيل كضيف لا يريد أن يثقل على ضيفه، يريد أن نحسن ضيافته كما أحسن لنا رفادته وكرمه، وقد خاب وخسر من نظر إليه كباقي أشهر العمر، ولم يغير فيه شيء، أو لم يزد في حسناته إلا اليسير. يقول نبينا صلوات ربي عليه وسلامه عليه:
رغِمَ أَنفُ رجلٍ ذُكِرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ ، ورَغِمَ أنفُ رجلٍ دخلَ علَيهِ رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبلَ أن يُغفَرَ لَهُ ، ورغمَ أنفُ رجلٍ أدرَكَ عندَهُ أبواهُ الكبرَ فلم يُدْخِلاهُ الجنَّةَ”[2].

 

وحال المسلمين اليوم يدمي القلوب إلا من رحم، وحدث ولا حرج عن ضياع الأوقات بلا فائدة، وبات الإعلام من حولنا يتفنن في أساليب قتل الأعمار، وانشغال باللهو المضيع للواجبات وللذكر وباقي الطاعات، وما ندري أو أننا ندري بأننا سنسأل عن كل دقيقة مرت في أعمارنا وفي الحديث :” نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصِّحَّةُ، والفراغُ[3].

 

وقفات وإضاءات رمضانية
ولن تبقى الصحة كما هي طوال العمر فسيأتي المرض أو الهرم ما يحول بيننا وبين الصوم، وسيزورنا الانشغال من حين لآخر لنبتعد على إثره من فتح المصاحف أو الجلوس خلوة مع الله وذكره واستغفاره. وما أحوجنا ونحن في هذا الشهر الكريم أن نتذكر إخوة لنا قد ابتلوا بمرض الكورونا ولم يستطيعوا الصيام أو القيام.

 

الفوائد الصحية في رمضان
الفوائد الصحية في رمضان – مركز الشرق للأبحاث والثقافة

 

 وشهر الصيام موسم لتحسين استغلال الأوقات من قبل الانشغال في باقي السنة، والصوم فيه يزيد من صحتنا طالما لم نرد بعد إلى أرذل العمر فهنيئًا لمن صامه وتقرب فيه إلى الله بأطايب الأعمال والكلام والطاعات قبل أطايب الأكل والطعومات والشراب.

 

 

الوقت-في-رمضان

 

والصيام له من الفوائد والحكم ما لا يتسع له المقام، لكن لا بأس ببعض منه خاصة وأن البيئة الجاهلية التي نزل فيها القرآن ،كانت متعطشة لهذا الهدي من السماء؛ لتخلع عنها أعباء الجسد المثقل بالشهوات.

 

تابع أيضاً في وقفات وإضاءات رمضانية

 

“والغالب على أحوال الأمم في جاهليتها، وبخاصة العرب هو الاستكثار من تناول اللذات من المآكل والخمور ولهو النساء والدعة، وكل ذلك يوفر القوى الجسمانية والدموية في الأجساد، فتقوى الطبائع الحيوانية التي في الإنسان من القوة الشهوية والقوة الغضبية وتطغيان على القوة العاقلة، فجاءت الشرائع بشرع الصيام؛ لأنه يفي بتهذيب تلك القوى، إذ هو يمسك الإنسان عن الاستكثار من مثيرات إفراطها، فتكون نتيجته تعديلها في أوقات معينة هي مظنة الاكتفاء بها إلى أوقات أخرى”[4].

 

 

وعليه فالصيام مهذب للجسد من الشهوات، وارتقاء بالروح إلى العلياء فينعدل الإنسان الذي خلقه من كلتا المادتين، وتحبس تلك الشهوات أثناء الصيام، فيترك المجال للروح لتتغذى الغذاء الروحي الذي يدخر لباقي العام، فيأنس ويرتفع ويرتقي، ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف.

 

وهذه الحالة من السمو هي متفاوته بين البشر على العموم، يتم الارتقاء معها على سبيل التدرج المرحلي، فلا يصل الإنسان للكمال المنشود اللائق بخليفة الأرض إلا إذا سار بروحه إلى تلك الكمالات التي تعبدنا الله بالسير نحوها رويدًا رويدًا.

 

 

يقول حجة الإسلام الغزالي: “اعْلَمْ أَنَّ الصَّوْمَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ صَوْمُ الْعُمُومِ وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص. وأما صَوْمُ الْعُمُومِ فَهُوَ كَفُّ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ عَنْ قضاء الشهوة، وَأَمَّا صَوْمُ الْخُصُوصِ فَهُوَ كَفُّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ عَنِ الْآثَامِ. وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهضم الدَّنِيَّةِ وَالْأَفْكَارِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَكَفُّهُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ عز وجل بالكلية”[5].

 

وقفات وإضاءات رمضانية

فالكل منا ينبغي أن يعرض نفسه على تلك الدرجات، ويسأل نفسه: أين أنا منها؟ هل صام صوم العموم فيكتفي بترك الملذات ولا يترك المحرمات؟ أم صومه صوم الخصوص الذي يبقى فيه التعلق بالدنيا؟ أم صومه هو صوم المتقين المحبين لأنسه، المتعالين عن كل شغل سواه، وما أسعدنا إن اصطفانا ربنا وجعلنا منهم اللهم نسألك أن نكون منهم.

 

 

نسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك لنا في شهر رمضان، وأن يهدينا ويهدي المسلمين لاستغلاله حق الاستغلال لنفوز بصيام الخواص، ويتقبل الله صيامنا وأعمالنا ويرحم الله من قضى من كورونا ولم يصم هذا العام، ويكتب له بنيته الصيام تامًا والقيام، ويبعد عنا والمسلمين شر الأمراض والأوجاع، ويلطف بنا ويرحمنا ويتوب علينا ويردنا إليه ردًا جميعًا إنه قريب مجيب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

[1] تفسير الجلالين 1/28.

[2] أخرجه مسلم (2551) مختصراً بنحوه، والترمذي (3545).

[3] أخرجه البخاري (6412).

[4] التحرير والتنوير لابن عاشور 2/155.

[5] إحياء علوم الدين للغزالي (1/ 243)