شهر سبتمبر ، ذكريات وتطبيع
بقلم / أحمد المدلل
تبدأ الحكاية من ميونخ بألمانيا يوم الخامس من سبتمبر عام ١٩٧٢م (عملية ميونخ الفدائية) حين كانت منظمة التحرير في أوج نضالها وكفاحها المسلح ،كانت خطة الفدائيين حينها اختطاف رياضيين صهاينة فى دورة الاولمبياد الصيفية المقامة فى ميونخ من أجل مبادلتهم ب٢٣٦ أسيرا فلسطينيا وعربيا ومن ضمنهم كوزو أوكاموتو من الجيش الأحمر الياباني الذى انتمى الى صفوف الثورة الفلسطينية واعتقلته المخابرات الصهيونية خلال اشتراكه فى عملية فدائية فى مطار اللد يوم 21/6/1972…
ومن نتائج عملية ميونخ قتل إحدى عشر رياضيا صهيونيا واستشهاد خمسة فدائيين من منفذي العملية والتى تبنتها منظمة أيلول الاسود بقيادة المرحوم الشهيد أبو إياد الرجل الثانى فى منظمة التحرير الفلسطينية …
وفى يوم الخامس من سبتمبر عام١٩٧٨م تم التوقيع على معاهدة كامب ديفيد بين الرئيس المصرى أنور السادات ورئيس الوزراء الاسرائيلى مناحيم بيغن ، وتُعتبر اتفاقية كامب ديفيد أول شرخ فى السقف العربى الذى كان رافضاً لأى إعتراف أو صلح أو مفاوضات مع اسرائيل.
وقد فاجأ السادات الجميع عندما أعلن فى البرلمان العربى وفى خطبة شهيرة له عام ١٩٧٧ قائلاً ” اننى مستعد أن أذهب الى بيتهم الى الكنيست ذاته ومناقشتهم ” وهو نفسه الذى خرج منتصرا فى معركة أكتوبر ١٩٧٣م على دولة الاحتلال ، لكنه أول من أعلن إعترافه بالكيان الصهيونى وضُربت عليه مقاطعة عربية وطُردت مصر من الجامعة العربية كما تم سحب مكاتبها من القاهرة وانتقلت الى تونس.
وقد نصت المعاهدة على التفاوض المباشر بين مصر واسرائيل من اجل الانسحاب الاسرائيلى من سيناء التى احتلتها اسرائيل عام ١٩٦٧م واقامة علاقات طبيعية بين مصر واسرائيل بعد المرحلة الاولى من الانسحاب من سيناء ، ولم يكن أى رضا شعبى أو نخبوى على تلك الاتفاقية ولم يستطع العدو الصهيونى بالرغم من مرور ٤٢ عاما على الاتفاقية أن يخترق المجتمع المصرى وبقى السفير الصهيونى متقوقعا فى ردهات سفارته ومحاطا بكل اشكال الحماية من الشعب المصرى الذى لا يزال رافضا لاتفاقية كامب ديفيد بالرغم من انسحاب العدو الصهيونى الكامل من سيناء …
وفى يوم السادس عشر من سبتمبر عام ١٩٨٢م ارتكب الجيش الصهيونى بقيادة شارون وبمشاركة ميليشيات حزب الكتائب اللبناني بزعامة ايلى حبيقة مجزرة صبرا وشاتيلا وقد قُتل فيها حسب مصادر غربية ما يقارب ٣٥٠٠ شهيدا من الفلسطينيين واللبنانيين الذين قاسموهم لقمة العيش فى مخيمى صبرا وشاتيلا وتُعتبر هذه المجزرة من أفظع المجازر التى أُرتكبت ضد الفلسطينيين ولا تزال حاضرة بمشاهدها وتفاصيلها وشخوصها فى حياة الفلسطينيين واللبنانيين ولتضاف الى سلسلة المجازر التى ارتكبها العدو الصهيونى منذ عام ١٩٤٨ الى هذه اللحظة.
ولم تكن مجزرة صبرا وشاتيلا الاولى ولن تكون الأخيرة طالما أن هناك احتلالا صهيونيا لا يزال جاثما على ارض فلسطين… وفى يوم الثالث عشر من سبتمبر عام ١٩٩٣م تم التوقيع على اتفاقية اوسلو والتى اعترفت فيها منظمة التحرير الفلسطينية بدولة الكيان الصهيونى وأقرت لها بشرعية احتلالها 78% من أرض فلسطين فيما بقيت ال22%أرضا متنازعا عليها بين المستوطنين وكنتونات فلسطينية متفرقة …
تابع أيضاُ في شهر سبتمبر ، ذكريات وتطبيع
وها نحن بعد مرور سبعة وعشرين عاما على الاتفاقية المشؤومة لم نحصد إلا مزيدا من المرارة والمعاناة والقتل والتهجير والاستيطان والتهويد والحصار والجوع والقهر وقد اعترف أخيرا الرئيس الفلسطينى محمود عباس والذى وقّع على الاتفاقيةأمام العالم كله فى مهرجان – كالذى رأيناه قبل أيام فى حديقة البيت الأبيض – أن العدو الصهيونى أعطاه صفراً كبيرا ، وقد أخذ كل شئ ، وأنه الآن رئيس سلطة بلا سلطة وذهبت أحلامه بإقامة دولة على حدود ٦٧ أدراج الرياح وأن أمريكا كانت تبيعنا الوهم …
كما أن بعض الأنظمة العربية استغلت اتفاقية اوسلو جسراً للعبور نحو التطبيع ونسج علاقات سياسية واقتصادية وثقافية ورياضية وغيرها مع الكيان الصهيونى ، ولم يعد خافياً ان اتفاقية اوسلو دمرت المشروع الوطنى الفلسطينى وحاصرت المقاومة وجعلت الاحتلال الصهيونى يعربد كيفما يشاء بلا كُلفة كما أحدثت انقساما فلسطينيا لا نزال نعيش آثاره المأساوية الى هذه اللحظة …
وفى يوم الثانى عشر من سبتمبر عام ٢٠٠٥م كان اندحار الجيش الصهيونى بقيادة شارون من غزة بعد أن اوجعته المقاومة الفلسطينية بكافة أذرعها العسكرية وعلى رأسها سرايا القدس وكتائب القسام بالعمليات البطولية والنوعية ضد الجيش الصهيونى والمستوطنيين الذين كانوا يعتبرون أرض غزة مزرعة لهم ومصنعا لمنتوجاتهم وكان يَعٍدُهم شارون ويُمنّيهم بأن مستوطنة نتساريم بالنسبة إليه مثل تل أبيب ولن يتخلى عنها أبداً ، إلا أن حالة الاستنزاف المستمرة له ولجيشه جعلته ينسحب مهزوما بلا اشتراطات ولا اتفاقيات يجر أذيال الخيبة وقد اعترف شارون نفسه ان الانسحاب “جاء تحت ضغط الوضع الأمنى المتردى ” وما أسماه ” معاناة المستوطنين” …
وفى يوم الخامس عشر من سبتمبر ٢٠٢٠م كان السقوط الكبير لنظامى الامارات المتحدة ومملكة البحرين فى وحل التطبيع مع العدو الصهيونى والتخلى تماما عن القضية الفلسطينية وتنفيذ الشق الأهم من صفقة القرن وهو اعطاء الشرعية للكيان الصهيونى على أرض فلسطين ليكون كيانا طبيعيا فى قلب العالم العربى والاسلامى ، والحديث يدور عن أنظمة عربية أخرى ستسير فى نفس الطريق باتجاه التطبيع مع العدو الصهيونى بعدما أعطت الجامعة العربية فى اجتماع وزراء الخارجية العرب يوم ٣ سبتمبر ٢٠٢٠م الضوء الأخضر للأنظمة العربية للتطبيع مع الكيان الصهيونى.
وقد اسقطت المشروع الفلسطينى بإدانة توقيع معاهدة التطبيع بين الامارات والكيان الصهيونى وبذلك تكون الجامعة قد القت بالمبادرة العربية التى أصدرتها عام ٢٠٠٢ فى سلة المهملات ( والتى كان شرطها تنازل اسرائيل عن أراضى ال٦٧ مع تبادل اراضى يقابلها الاعتراف وعقد معاهدات سلام مع اسرائيل ) وقد اعتبرها الأمين العام لحركة الجهاد الاسلامى الاستاذ /زياد نخالة أخطر على القضية الفلسطينية من وعد بلفور ( فى لقاء على فضائية الميادين مساء الاربعاء 17/9/2020) ، لتبدأ مرحلة عربية أكثر انهيارا من المرحلة التى سبقتها إفتتحها نظاما الامارات العربية والبحرين …
وبالفعل تم التوقيع مساء يوم ١٥ سبتمبر ٢٠٢٠م فى حديقة البيت الابيض بين النظامين الاماراتى والبحرينى مع اسرائيل بشهادة أمريكية وأمام حضور كبير باحتفال فولوكلورى نقلته كل وسائل الاعلام فى العالم …
مشهدٌ مخزى يظهر مدى السقوط الاخلاقى والقيمى الذى أصاب المُوَقِّعين على معاهدة التطبيع مع الكيان الصهيونى بدون اى حسابات للعقيدة والعروبة والتاريخ واستخفافا بالمبادئ الانسانية عندما يُكافأ المجرمُ والقاتلُ الصهيونى على جرائمه ويُكافأُ ترامب على مؤامرة صفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية ويشكل النظامان بذلك طوق نجاة لنتنياهو وترامب من محاكم الفساد التى تنتظر الاثنين ويتقدما للفوز فى الانتخابات القريبة القادمة فى اللحظة الذى سَئِم فيها الشعب الأمريكى ترامب وسَئِم المجتمع الصهيونى نتنياهو بسبب قضايا الفساد التى ارتكبها الاثنان.
لذا فإن توقيع معاهدات تطبيع او سلام مع العدو الصهيونى لا تعطيه فقط مزيدا من الشرعية باحتلال فلسطين ومزيدا من الشهوانية المتدفقة لارتكاب الجرائم والمجازر ضد الشعب الفلسطينى ، وإنما ستعطيه الدافعية لاشعال حروب ومزيد من الدمار فى المنطقة العربية عندما تحط القواعد العسكرية الصهيوأمريكية رحالها على أرض البحرين والامارات وباقى أراضى الخليج على امتداد الحدود مع ايران فإن أى حرب ستشعلها أمريكا واسرائيل هناك ستنعكس نتائجها الكارثية على دويلات الخليج وليست على أمريكا أواسرائيل …
وهذا ما تريده دولة الكيان ، بالإضافة إلى أن عين اسرائيل على تلك المنطقة لنهب ثرواتها وليكون مستقبلا ميناء حيفا بديلاً عن ميناء بيروت الذى دمرته أيادى يحركها الموساد (حسب بعض المراقبين) …
وبذلك تكون دولة الاحتلال حمت نفسها من ايران التى تشكل الخطر الأكبر عليها والتى تقود محور المقاومة والداعم الرئيس للقضية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية واللبنانية اللتان مثلتا هاجسا وجوديا وامنيا للكيان الصهيونى بعد أن تم تحييد الانظمة العربية التى رضيت لنفسها وبطواعية مطلقة أن تسير فى الفلك الصهيو أمريكى ، وبذلك يكون العدو الصهيونى قد أمن العقاب إلى جانب ضمان عدم تدخل أى من الانظمة المُطبّعة لإنقاذ أو مساعدة الشعب الفلسطينى واللبنانى فى أى حرب قادمة يشنها العدو الصهيونى عليهما …
كما حدث سابقا فى حرب تموز ٢٠٠٦م على لبنان وثلاث حروب مدمرة على غزة لأن ثروات ومقدرات الأمة أصبحت خاضعة للارادة الصهيوأمريكية …
لقد شهد شهر سبتمبر ، ذكريات وتطبيع على مدار خمسة عقود تقريباً ، وكما هو معروف فإن مركز القرار الصهيونى لا يختار التواريخ عشوائيا كما هى الانظمة المتهافتة لأن الصورة النمطية فى عقول قادة الصهاينة والذى عبّر عنها وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق “موشى ديّان” حين قال “إن العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يستوعبون ” وهذا ما ينطبق على هذه الأنظمة الرجعية ، ولو امتلك المطبعون ذرة فهم سياسى لاعتبروا بما وصلت اليه الامور فى مصر وفلسطين والاردن من أوضاع كارثية فى كل المناحى بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام ١٩٧٨ واتفاقية أوسلو عام ١٩٩٣ واتفاقية وادى عربة عام ١٩٩٤ …
ورسالة نتنياهو للعرب والفلسطينيين ان الخطأ التاريخى الذى ارتكبه شارون فى سبتمبر عام ٢٠٠٥م بالانسحاب من غزة لن يتكرر وهو آخر الانسحابات أما رسالته للإسرائيليين” أن على اسرائيل ان تأخذ درساً من تجربة الانسحاب من غزة وألّا تنسحب من الضفة الغربية الأقرب على مراكز اسرائيل الحضرية من غزة ” …
طموحات ترامب ونتنياهو من التطبيع من أجل تهيئة المنطقة لتكون مرتعاً آمناً لدولة الاحتلال مقابل توفير الحماية لعروش مهترئة …