مركز الشرق للأبحاث و الثقافة

تفسير قوله تعالى (بُورك مَن في النار ومَن حولها)

تفسير قوله تعالى (بُورك مَن في النار ومَن حولها)

تفسير قوله تعالى (بُورك مَن في النار ومَن حولها)

 

بقلم د. نصر فحجان – غزة
يقول الله تعالى: (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين) النمل 8

 

الآية تتحدث عن موسى عليه السلام في بداية تكليف الله تعالى له بالرسالة، وقد قضى الأجل وخرج من مَدين، وفي منطقة جبل الطور، في وحشة الليل آنس من جانب الطور نارًا: (إذ قال موسى لأهله إني آنست نارًا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون)، فطلب من أهله أنْ يمكثوا ويبقوا في مكانهم، لعله يأتيهم بجذوة من النار، أو يجد على النار هدى.

 

ولما جاء موسى عليه السلام النار ناداه الله تعالى: (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها)، وفي هذا النداء تطمينٌ وتقريبٌ وإيناسٌ من الله تعالى لموسى عليه السلام الذي جاء النار طلبًا للأنس والطمأنينة.

 

 

فما المُراد بقوله تعالى: (بورك من في النار ومن حولها)؟
تعددت أقوال المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة، ومن أشهر هذه الأقوال:
1. المُراد بقوله تعالى: (من في النار): أيْ إنّ الذي كان في النار عندما جاءها موسى عليه السلام هو الله تعالى.

 

 

2. المُراد بقوله تعالى: (من في النار): أيْ إنّ الذين كانوا في النار عندما جاءها موسى عليه السلام هم الملائكة.

 

 

وعند مناقشة هذين القولين نجد أنهما غير مقبولين لما فيهما من المخالفة والخطأ، فالقول الأول يجعل الذات العَليّة (الله تعالى) هو الذي في النار، وهذا قول تقشعرّ منه الأبدان، فالله تعالى ليس كمثله شيء، وهو لا يَحُل في حَيِّز أو مكان كالنار أو غيرها، ونحن لا نُجسّمه، ولا نُشبهُه بشيء سبحانه.

 

والقول بأنّ الله تعالى هو الذي كان في النار، قولٌ يخالف السياق الذي جاءت فيه الآية وهو إحداث الأُنس والطمأنينة والتقريب لموسى عليه السلام، بهذه المباركة.

 

 

والله تعالى لا يناسب جلالَه وقدسيتَه وعظمتَه أنْ يكون هو المُراد في قوله تعالى: (بورك من في النار)، فالله تعالى فاعلٌ في المباركة، ولا يقع عليه سبحانه فعلُ المباركة، والذي يناسب قدسيتَه وجلالَه ما قاله الله تعالى عن نفسه: (تبارك)، كما في قوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير).

 

 

وأما القول الثاني وهو أنّ الذين كانوا في النار هم الملائكة فهو لا يخدمه السياق، فالسياق جاء في مباركة الله تعالى لموسى عليه السلام وتقريبه وإيناسه: (وناديناه من جانب الأيمن وقربناه نجيًّا)، وسيتبين لنا بأنّ الذي بورك في النار هو موسى عليه السلام الذي جاء به الله تعالى إلى الطور، بعد أنْ أراه النار وآنَسَه بها، ولا مُسوّغ للقول بأنّ الملائكة هم الذين باركهم الله في النار.

 

 

والذي أراه أنّ المُراد بقوله تعالى: (نودي أن بورك من في النار ومن حولها) هو موسى عليه السلام، وأهله الذين قال لهم امكثوا، وهو ما يدل عليه السياق، ومقتضى الحال.
وقد يتساءل البعض فيقولون: وكيف كان موسى عليه السلام في النار؟

 

 

إنّ في اللغة العربية كناياتٍ ومجازاتٍ واستخداماتٍ يعرفها الناطقون بها، فمثلًا نحن نقول إذا رأينا رجلًا يقف تحت الشمس: إنه يقف في الشمس، أي أنه يقف في ضوئها وأشعتها وحرارتها، ولا نقصد طبعًا أنْ نقول: إنه يقف في داخل الشمس من الناحية الحسية والمادية، وهو نفسه ما نفهمه من قول الله تعالى: (بورك من في النار)، أي أنّ موسى عليه السلام كان في دفء النار، وفي هالة النار، وفي ضوئها، وليس في قلب النار ذاتها، وهو ما جلب له الأنس والطمأنينة.

تابع في تفسير قوله تعالى (بُورك مَن في النار ومَن حولها)

والله تعالى ينادي موسى عليه السلام، ويبدأ كلامه معه بأنّه مبارك من الله تعالى: (أن بورك من في النار)، وأنّه في ضيافة ربه في هذا الوادي المقدس طوى، وأنه اختيار ربه ونبيُّه ورسولُه: (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى).

 

 

والمُراد بقوله تعالى: (ومن حولها): هم أهل موسى عليه السلام الذين قال لهم: (امكثوا إني آنست نارًا)، فقد كانوا قريبين من النار وحولها، والله تعالى أراد أنْ يُطَمئِن قلب موسى عليه السلام على أهله الذين ينتظرونه كما وعدهم، فقال له: (أن بورك من في النار ومن حولها)، أي إنك يا موسى وأهلك قد بوركتم من الله تعالى، في هذا الوادي المبارك، فلا خوف عليكم ولا وحشة.

 

 

والله تعالى إذ يبارك أهل موسى عليه السلام، فقد بارك أهل إبراهيم عليه السلام من قبل، وهو ما نجده في قوله تعالى: (قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) هود 73، وهو نفسه ما أذن الله به لأهل محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا) الأحزاب 33، ولا يزال المسلمون يدعون لآل إبراهيم عليه السلام، ولآل محمد عليه السلام في صلاتهم: (اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم).
د. نصر فحجان – غزة