مصر و حماس وتجاوز الصعب في العلاقات
بقلم/ أسامة عامر
لطالما كان لمصر ولعلاقاتها مع فلسطين، وضع خاص بعد أن ارتبط مصير كل منهما بالأخر.
هل هذا قول عاطفي؟ رغم أن العاطفة تبقى موجودة في هذه العلاقة المصيرية، وبالتالي في هذا القول! لكن الأهم أنها نظرة علمية وموضوعية بحتة، وذلك للأبعاد الجغرافية والتاريخية بين البلدين؛
فتاريخياً شكلت القضية الفلسطينية العامل الأكبر في تعزيز الشعور القومي العربي بشكل عام وفي مصر بشكل خاص، فأواصر العلاقة بين مصر وبين فلسطين تمتد منذ أربعينيات القرن الماضي، عندما ألقى عبد الرازق السنهوري ممثل المملكة المصرية كلمته في مؤتمر فلسطين الذي عقد في لندن في نهاية عام 1946، حيث عبر عن الموقف المصري برفضه القاطع لأي شكل من أشكال تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها وأكد على حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.
وجغرافياً، تربط مصر وفلسطين الحدود الشرقية، والتي تبدأ من رأس طابا على خليج العقبة، حتى الساحل المتوسطي في مدينة رفح، ويشكل قطاع غزة الحدود البرية والبوابة الشرقية لمصر، الأمر الذي أنتج علاقة مصرية خاصة ومتميزة مع غزة، والتي ستبقى النقطة الساخنة بين البلدين في ملف القضية الفلسطينية.
بسبب ارتباط أمن مصر ارتباطا وثيقاً لا يمكن فصله عن أمن قطاع غزة؛ إذ أصبح من البديهي في عرف الأمن القومي المصري أنه حينما يكون أمن قطاع غزة مخترق، وفي وضع خطير؛ فستكون البوابة الشرقية لمصر هشة ولينة أمام العدو؛ وحين تصمد غزة؛ تقوى مصر كلها، وعليه فقد أضحى غنياً عن القول أن أمن مصر واستقلالها الداخلي والوطني مرتبط بما يجري على حدودها الشرقية.
ومن هنا يأتي السؤال؛ والذي يطرح باستمرار؛ خصوصاً مع التغير في المستجدات والظروف السياسية، عن ماهية النظرة المصرية للعلاقة مع قطاع غزة، وهو القطاع الذي تسيطر عليه الحركة الإسلامية الفلسطينية “حماس” منذ العام 2007 بكل تشابكات وتعقيدات هذه العلاقة؟.
وحماس التي أصبحت رقماً صعباً – من الاستحالة تجاوزها – في المعادلة الداخلية الفلسطينية، وكذلك رقماً إقليمياً ودولياً، تراوحت علاقتها بالدولة المصرية ما بين شدِ وجذب، إلا أن قمة التوتر في العلاقات بين الطرفين كانت بعد منتصف العام 2013، بعد الأحداث التي عصفت بالدولة المصرية، وانعكاس ذلك على العلاقة مع حماس التي تنتمي فكرياً إلى منظومة الإخوان المسلمين.
فحدثت -حينها- القطيعة بين حماس والدولة المصرية فتوقفت كل أشكال العلاقة بينهما، واستمر هذا الحال حتى شهر مارس/ أذار 2016 حينما حدثت انفراجه نسبية في العلاقات بين حماس ومصر بعد زيارة وفد رفيع المستوى من حماس للعاصمة المصرية القاهرة في 12 مارس /آذار 2016 ثم تعززت هذه الإنفراجة في نهاية العام 2016 بعد الزيارة السياسية الناجحة التى قام بها في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2016 القيادي الكبير في الحركة، رئيس مكتب العلاقات الدولية فيها، الدكتور موسى أبو مرزوق إلى القاهرة.
ثم تبعها استقبال العاصمة المصرية لوفد سياسي كبير من “حماس” في الشهر الذي تلاه مباشرةً، وكان ذلك في شهر يناير/ كانون الثاني2017، وترأس الوفد -في حينه- رئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق، نائب رئيس المكتب السياسي في “حماس” -حينئذ- الأستاذ إسماعيل هنية.
تابع في مصر و حماس وتجاوز الصعب في العلاقات
هاتين الزيارتين، المشار إليهما للقاهرة كانتا قد جاءتا قبل أيام وأسابيع قليلة من انقضاء عام 2016، بحلوه ومره على صعيد العلاقات البينية بين الحركة الإسلامية الفلسطينية “حماس” ونظام الحكم في مصر، والذي كان يخوض –حينها- ومنذ حوالي أربع سنوات صراعاً سياسياً كبيراً مع جماعة ” الإخوان المسلمين” وهي الجماعة الأم التي لا تُخفى “حماس” انتماءها لها؛ كما أنها – أي “حماس” ليس بوارد التنكر لها، (على الأقل في جانب الإنتماء الفكري والإرتباط العاطفي)، ليبدأ عام 2017 مع تحركات سياسية متفائلة من الجانبين عكس ملامح تحوّل حقيقية في العلاقة بين القاهرة و”حماس” والأخيرة كانت لفترة طويلة (منذ ثورة يناير 2011) في دائرة الإتهامات في العاصمة المصرية، اتهامات كثيرها كان إعلامياً؛ وبعضها كان قضائياً؛ استأنفت عليه الدولة المصرية نفسها؛ حين رفضت تلك الإتهامات، الموجهة لـ”حماس” بالتدخل بالشئون الداخلية لمصر.
وباقتحام السجون وبدعم ثوار 25 يناير 2011 وتقديم الدعم العسكري واللوجستي لجماعة الإخوان المسلمين، وهي الإتهامات التى سبق وأن نفتها بشدة “حماس” مراراً وتكراراً، ثم جاء رفضها من قبل القضاء المصري نفسه، برد كل ما رفع إليه من قضايا، حتى لم يعد هناك قضايا من هذا النوع عالقة بين حماس وبين مصر، وكانت تلك الفترة من الفترات الصعبة في العلاقة بين الجانبين؛ وأفضت للقطيعة بينهما إلى أن انتهت هذه القطيعة بتلك الزيارتين المشار إليهما آنفا، ثم تبعهما زيارات منتعددة كثيرة ومهمة استمرت حتى يومنا هذا، ولعل كان أهم تلك الزيارات هي تلك التي تم إعلان المصالحة الفلسطينية من خلالها ومن جديد على أرض القاهرة بين “فتح” و”حماس” في أكتوبر/ تشرين الأول 2017.
إلى ذلك تكررت تأكيدات “حماس” على أهمية العلاقة مع مصر ورفضها لأي توتر معها؛ وهذا في تقديرنا كان مبعثه إدراك “حماس” لخطورة استعداء مصر؛ ليس لكونها المتنفس الوحيد لقطاع غزة فحسب، بل لإدراكها كذلك أنه مهما كان الخلاف مع النظام المصري مستحكماً، فإن مصر بإمكاناتها المادية والبشرية الهائلة وبانتمائها العربي والإسلامي تظل ذخراً لفلسطين ولقضيتها.
لكن كانت ولا تزال تطل برأسها بين الفينة والأخرى معضلة الارتباط والعلاقة حتى وهي في إطارها الفكري والعاطفي بين “حماس” وجماعة “الإخوان المسلمين”، وهي العلاقة التي بقيت مؤرقة لأنظمة الحكم المصرية والتي تتعامل بحساسية شديدة مع كل الحركات الإسلامية، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالإخوان المسلمين الذين يمثلون المعارضة الأقوى، والوريث المحتمل لأنظمة الحكم المصرية في كل الأزمنة؛ فماذا تفعل حماس؟.
“حماس” تؤكد دوماً بأنها حركة مستقلة ولها رؤيتها وأهدافها، وهو ما أكدته في وثيقتها التاريخية التي أعلنتها في الأول من مايو/ آيار 2017 والتي جاءت لتعطي مرونة مضافة على صعيد العلاقة مع مصر.
فتاريخياً؛ ومنذ تأسيس الحركة تميزت “حماس” بالكثير من المرونة والديناميكية، وسعت إلى توظيف العديد من نقاط التقاطع والتلاقي لطمأنة أنظمة الحكم المصرية المختلفة، التي تعاملت معها، سواءً مع نظام حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك؛ والذي تعاملت معه بعلاقات شبه مريحة، أو خلال تعاملها مع حقبة حكم المجلس العسكري برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي، بعد ثورة 25 يناير 2011 والذي تعاملت معها بإيجابية كبيرة.
وتم – حينها- توقيع اتفاقية المصالحة الفلسطينية، واتمام صفقة تبادل الأسرى، “وفاء الأحرار” (صفقة شاليط)، كما استمرت العلاقات على طبيعتها ومن البوابة نفسها في عهد الرئيس محمد مرسى؛ وهي مستمرة بنفس الروح مع النظام الحالي في مصر.
و”حماس” هنا؛ تعمل على إظهار روح المسؤولية تجاه المصالح الوطنية الفلسطينية والمصرية معاً، وإن كانت ستبقى تتصرف باستقلالية كبيرة، عندما يتعلق الأمر بهويتها الإسلامية أو بالمقاومة، أو عندما ترى أن نظام الحكم في مصر سيمارس الضغوط عليها لصالح مسارات لا تؤمن بها كمسارات التسوية، أو عمل ترتيبات تنتقص من حقوقها في الساحة الفلسطينية؛ مثلما شاهدنا قبل أيام قليلة حينما سجلت الحركة موقفاً رافضاً لترحيب مصر باتفاقية تطبيع العلاقات بين دولة الإمارات العربية مع العدو الصهيوني، وجاء هذا الرفض على لسان رئيس الحركة الأستاذ إسماعيل هنية.
لكن ماذا عن مصر وما الذي تنتظره وتتوقعه من استمرار علاقتها مع “حماس”؟. العالمون ببواطن الأمور يرون بأنه لن يكون أمام أي نظام حكم في مصر بدٌّ – مهما كان حجم انزعاجه من “حماس” وارتباطاتها- من استمرار لعب دوره (الأبوي) الراعي للقضية الفلسطينية، ولكل القوى والفصائل الفلسطينية، وتحديداً لحركة جماهيرية واسعة مثل “حماس” التى تشكل قوة راسخة وكبيرة ومتجذرة داخل الصف الفلسطيني؛ سواءً كان ذلك على المستوى الشعبي، أو كان على المستوى الأمني والعسكري؛ من خلال حكمها المباشر للقطاع الجغرافي المحاذي لمصر من الحدود الشمالية الشرقية.
السؤال الآخر؛ هل من الممكن لمصر أن تتعامل مع “حماس” باعتبارها رصيداً إستراتيجياً يخدم مصالحها العليا وأمنها القومي؟ وليس باعتبارها مشكلة أو عبئاً يحرجها ويثقل كاهلها، وتود كما ولو أنها ترتاح منه؟ في تقديرنا ودون أية أوهام، أو أية مجاملات.
ستبقى مصر تتعامل مع “حماس” بما يشبه علاقة الزواج الكاثوليكي؛ فعلى الرغم من كل المشاكل وصعوبات السياسة؛ ستبقى العلاقة بين مصر و”حماس” قائمة؛ سواءً باعتبارها عبئاً ومشكلة؛ أو باعتبارها رصيداً استراتيجياً يصبّ في المحصلة في المصلحة القومية العليا لمصر على المدى المنظور، سواءً القريب أو البعيد.
قد يسأل البعض سؤالاً أخر؛ وكيف لـ “حماس” أن تكون رصيداً استراتيجياً لمصر؟ في تقديرنا أن إجابة هذا التساؤل له أسباباً عديدة؛ موضوعية واقعية، وأخرى إجرائية؛ يصعب حصرها الآن، وجميعها تصب في صالح “حماس” كحركة مقاومة، وهي أسباب ومعطيات لا تخطؤها أعين أجهزة القرار السيادية في مصر، التى تعلم حقيقة كل صغيرة وكبيرة عن “حماس”.
لكن على سبيل المثال لا الحصر يمكننا القول إضافة إلى ما سبق ذكره من تجذر لـ”حماس” في أوساط الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الخارج، وفضلاً على أنها – أي حماس- أصبحت تملك جيشاً مقاوماً صمد خلال أربعة حروب شنتها إسرائيل على قطاع غزة.
وفضلاً على ما تمتلكه الحركة من مشروعية انتخابية من ناحية المؤسسة التشريعية تجعل من العبث تجاوزها، وهذه كلها معطيات مهمة، لكن قد يكون الأهم بالنسبة إلى مصر بين كل هذه المعطيات هو أن “حماس” حركة حصرت عملها في العمل الوطني المقاوم داخل أرض فلسطين.
ولم تتدخل حقيقةً لا في الشأن المصري، ولا في الشؤون العربية طوال الـ33 سنة التي مضت على تأسيسها. كما أن ارتباطها بالمرجعية وبالفكر الإسلامي مرتبط بشحذ الطاقات والهمم من أجل العمل على تحرير فلسطين، وهذا الإرتباط يعلم صانع القرار المصري بأنه لن يهدد لا النظام المصري؛ ولا أي من الأنظمة العربية.
كما أثبتت الأحداث الإقليمية في السنوات التسع الأخيرة وتحديداً ما حصل في سوريا بأنها حركة مستقلة غير مرتهنة لأي من الأنظمة أو المحاور، وتحديداً للنظام الإيراني، وبأن دعوى الولاء لإيران أو العمل لحسابها التى كانت تؤرق أنظمة الحكم المصرية غير صحيحة، وهو ما كان يعيه نظام الحكم في مصر.
لكنه اتهام اُستغل لأسباب تخص أصحابها ضد الحركة في حقب معينة مع علمهم بأن استفادة “حماس” سواءً السابقة أو الحالية – من إيران- هي من قبيل دعم برنامج المقاومة، الذي تحمله الحركة؛ وحاربتها بعض الأنظمة العربية بسببه، وأغلقت الأبواب في وجهها”.
يضاف إلى تلك الأسباب الأكثر أهمية، أن أي عملية لإصلاح البيت الفلسطيني وتحديداً الآن فيما يتعلق بتجديد الشرعيات الفلسطينية، وتحديداً فيما يتعلق بمنظمة التحرير الفلسطينية في نسختها الثالثة، لن تتمّ إلا بمشاركة “حماس”، وبأن تأخذ “حماس” حقها العادل ودورها الطبيعي في هذا المسار.