عندما عُدتُ إلى قريتي

عندما عُدتُ إلى قريتي المحررة

 

د. عصام محمد علي عَدوان

 

لاحت لي قريتي بربرة من بعيد. كنا على وشك الوصول، ومن شدة الفرح والبهجة بالنصر والتحرير زحفنا مشياً على الأقدام. كنا آلافاً من أهالي قرية بربرة المهجّرين في سنة 1948. لم تكن المسافة بالبعيدة، فهي لا تزيد عن 17 كيلو متراً شمال مدينة غزة، حيث تقع بربرة على جانبي طريق صلاح الدين المؤدي إلى المجدل.

 

كنا ملهوفين لرؤية أراضينا التي هُجِّر منها أهلونا. لقد اصطحبني والدي لزيارة بربرة مرات عِدّة في طفولتي، بل زرتُ بدراجتي الهوائية أرض جدي في الجهة الشمالية من القرية، كنت وقتها في الثانية عشر.

 

عند وصولنا، لم تخطئني الخطى نحو أرض جدي؛ أعرفها تماماً، لم يكن فيها زرع ولا بناء. كانت بكراً، تتخللها أشجار الكينا أو الكافور التي حاول الاحتلال اليهودي أن يطمس بها معالم قرى فلسطين المحتلة.

 

وقفت كل عائلة أمام أرضها تشكر الله على نعمة التحرير والعودة. لم يكن لأحد أن يُقْدِم على إجراء أي تغيير في القرية في تلك اللحظة، فقد صدرت قرارات الحاكم العام لأراضي فلسطين المحررة بعدم المساس بالوضع القائم لفترة انتقالية مدتها سنة تتولى فيها الجهات المختصة الحفاظ على أراضي وأملاك ومقدرات فلسطين.

 

كان الاحتلال قد أقام سكة حديد تمر عبر أراضي بربرة، وأقام في جزء منها مستوطنة صغيرة، أفادت تعليمات الحاكم العام أن أراضي السكة الحديد لن تعود لأصحابها حيث سيبدلهم عنها أرضاً أخرى في نطاق القرية؛ حفاظاً على هذه السكة للنفع العام. لقد امتثل الأهالي لتعليمات الجهات المسؤولة بشأن عدم المساس بالمحاصيل والمباني وأعمدة الكهرباء والطرق، حيث سبقتنا إلى بربرة لجان مدنية متخصصة تولت إحصاء وحماية هذه المقدرات، كما تولت لجان زراعية عملية رعاية المحاصيل والأشجار المثمرة حتى يأتي أوان حصادها.

 

توافد إلى القرية بعض أهاليها من خارج قطاع غزة، فبعضهم قدِمَ من الأردن وبعضهم من مصر، ونظراً لبعد أماكن لجوئهم فقد قرروا الإقامة في القرية، وإذ بلجان متخصصة مكلفة من الجهات المسؤولة تقوم بإحصائهم وتصطحبهم إلى بعض البنايات السكنية التي هَجَرَها المحتلون وتم إسكان كل عائلة في شقة سكنية تناسب عددها وذلك في محيط القرية، وذلك بصورة مؤقتة إلى حين الانتهاء من الإجراءات الانتقالية.

 

لاحظ الجميع وعياً ملموساً من الأهالي بعدم المساس بأية مقدرات أو التصرف بأراضيهم نظراً لحملة التوعية التي قامت بها بعض اللجان التحضيرية التابعة لهيئة وعد الآخرة، والتي سبقت وتزامنت مع عملية التحرير وأرشدت الأهالي إلى كيفية التعامل مع الأراضي المحررة وإفساح المجال للجان المختصة بالتدخل، حيث شرعت لجان شعبية انتشرت في جميع أنحاء فلسطين في حماية كل ما هو على وجه الأرض.

 

لقد اكتسبت الجهات المسؤولة خبرة من مجريات إخلاء مستوطنات قطاع غزة في عام 2005م التي تعرضت للنهب والتدمير بشكل مسيء؛ فظهرت الحاجة إلى الحيطة من تكرار هذا المشهد المسيء.

 

تجولنا في أنحاء قريتنا، ولاحظنا كم كان استغلال الاحتلال للأرض هامشياً، فقد أقام على جزء منها مستوطنة صغيرة لا تزيد عن خمسين دونماً، وزرع مئات الدونمات لصالحها، وأقام محطة قطار وسكة حديد تمر عبر القرية. لقد تفاجأنا من أن الاحتلال وعبر احتلال دام لأكثر من سبعة عقود لم يستغل الأرض، وهو ما يعني عدم حاجته لها، فلماذا طرد الفلسطينيين منها؟!

اقرأ أيضاً:

الثور-الإسرائيلي-يترنح 

الثور-الإسرائيلي-يترنح

دعا الحاكم العام كل اللاجئين للتوجه إلى مقره في غزة لتثبيت ملكياتهم التي نهبها الاحتلال أو دمّرها وأتلفها، ولتوكيل الحاكم العام بملاحقة المحتلين عبر العالم لتحصيل قيمة ممتلكاتهم التي أهدرها الاحتلال، كما أنشأ دائرة لتقدير قيمة استغلال الاحتلال للأرض ومقدراتها خلال كل تلك السنين. توجهتُ مع أشقائي العائدين من خارج فلسطين لتسجيل ملكياتنا، وتوكيل الحاكم العام لملاحقة المحتلين من أجل تعويضنا عن استغلالهم لأرضنا، وفي غضون ستة شهور انتهت عمليات حصر وتثبيت الأملاك، وتقدير التعويضات؛ تلك التعويضات التي ستسددها الجهات السيادية الفلسطينية من الأموال السائلة التي تم وضع اليد عليها في المؤسسات المالية المنتشرة في فلسطين المحرَّرة، فضلاً عن ملاحقة مالية قانونية لكل اليهود الذين هرّبوا أموالاً إلى خارج فلسطين أثناء عملية التحرير، أو أسسوا شركات مزدوجة الجنسية، ولما شعروا بدنوّ نهايتهم في فلسطين هربوا بأنفسهم نحو شركاتهم الخارجية التي ما كان لهم أن يؤسسوها لولا نهبهم لثروات فلسطين طوال سني الاحتلال.

 

 

تابع في مقال : عندما عُدتُ إلى قريتي المحررة

أما الأهالي الذين طفقوا عائدين من خارج فلسطين وأسكنتهم اللجان المختصة في الأبنية القائمة بصورة مؤقتة، فقد انتهت عمليات الإحصاء في أقل من سنة، ومن ثمَّ شرعت الجهات السيادية في تسليم كل عائلة ملكياتها، أو مقايضتها على بعض الأبنية المكافئة كلما لزم الأمر. وأما أنا وأشقائي فقد عدنا إلى أرض جدي التي لم يكن عليها أية أبنية أو مؤسسات، فتقاسمناها وعزمنا على البناء فيها بجانب مزرعة، وتشاركنا في بناء مسجد للقرية في جزء من أرضنا عن روح جدي ووالدي.

 

لقد أصدر الحاكم العام قبل نهاية السنة الانتقالية مرسوماً يحرم كل خائن من ملكياته، وتسجيل هذه الملكيات لحساب الدولة، على أن تكون الأولوية لأولاد الخونة وأحفادهم ممن لا ذنب لهم أن يستأجروا تلك الأراضي من السلطات لأغراض زراعية، وذلك تشجيعاً لهم للتمسك بمواطنتهم في فلسطين، وإعلاناً بتثبيت الصفة الفلسطينية لهم ومنعاً لتكرار العقوبة. وأما أراضي الوقف الإسلامي الكثيرة التي أُقيم على جزء منها سكة حديد وطرق معبَّدة، فقد تم تبديلها بأراضي مكافئة لها من الأراضي الحكومية، حفاظاً على النفع العام، وهو ما حصل مع الملكيات الخاصة أيضاً.

 

ومع تمام عملية إعادة الأملاك لأصحابها، قرر كبار المُلّاك في القرية عقد اتفاق بينهم على زراعة العنب على وجه الخصوص، وتطوير هذه الزراعة التي اشتهرت وتميزت بها بربرة قبل النكبة، لتكون الأولى على مستوى فلسطين، واتفق الجميع على تحويل بربرة إلى مدينة عامرة بأهلها، واتخاذ ورقة العنب الخضراء شعاراً لبلديتها.

 

{.. فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ۖ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا)51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء 52)