أخبر القرآن الكريم عن الإفسادتين لبني إسرائيل، ورد الحديث عنهما في سورة الإسراء، حيث قال الله تعالى: “وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً. فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً. ثم رددنا لكم الكَرَّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنينَ وجعلناكم أكثرَ نفيراً. إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها. فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجدَ كما دخلوه أول مرة وليتبِّروا ما علوا تتبيراً” (الإسراء: 4-7).
في خضم معركة طوفان الأقصى ومن وحيها، نحاول أن نمنح أنفسنا قراءة جديدة لمعنى الإفسادتين وتوقيتهما وكيفية إنهائهما.
الإفسادة الأولى هي قيام دولة إسرائيل على حساب حقوق المسلمين والفلسطينيين تحديداً في أرض فلسطين، منذ عام 1948 وحتى 7 أكتوبر 2023م، ففي هذا اليوم جاء وعد أولاهما، وذلك للقرائن التالية:
ليس منطقياً أن يُرسل الله فاسداً وثنياً كنبوخذ نصّر ليقضي على إفساد مملكة بني إسرائيل القديمة في أورشليم، فهذا الملك لم يأتِ خصيصاً للقضاء عليهم، بل جاء لتوسيع إمبراطوريته على حساب كل بلاد الشام، وحاول التوجّه إلى مصر كذلك لكنه فشل. ورغم أقوال بعض العلماء عن تفسير كلمة “عباداً لنا” بأنها تشمل المسلم والكافر، فالكل عبيد لله وعبادٌ له، إلا أن هناك وحدة بين آيات سورة الإسراء، تجعل “عباداً لنا” من جنس “بعبده” التي بدأت بها السورة. لم يُذكر في وعد أولاهما دخول المسجد. ومع أن نبوخذ نصّر لم تكن وجهته المسجد الأقصى، ولم يستهدفه تحديداً، رغم تدميره له، إلا أن القرآن لم يذكر صلة وعد أولاهما بدخول المسجد الأقصى، وهذا ما حدث في معركة 7 أكتوبر، حيث لم تتمكن كتائب القسام التابعة لحركة حماس من الوصول إلى المسجد الأقصى، كما لم تقدِّم كل قوى المقاومة الفلسطينية أي تغيير إيجابي على أوضاع المسجد الأقصى.
نبوخذ نصّر لم يَجُسْ خلال الديار فقط بل احتلها لنصف قرن ودمر أجزاء مهمة منها. ولكن ما فعلته كتائب القسام يوم 7 أكتوبر أن عناصرها جاسوا خلال الديار المحتلة في غلاف غزة ولمدة زادت على خمس ساعات، فاقتحموا المقرات الأمنية والعسكرية، واقتحموا بيوت المستوطنين اليهود، وأسروا عشرات منهم، وقفلوا راجعين إلى قواعدهم، فكان هذا هو الجوْس بمعناه الدقيق. لم تخبرنا آية وعد أولاهما بأية تفاصيل إضافية غير أن عباد الله جاسوا خلال الديار. وهذا بالضبط ما فعلته كتائب القسام، بمعنى: إنهم لم يحرروا أرضاً، ولم يدمروا علوّ إسرائيل، ولم يدخلوا المسجد الأقصى ولم يمنعوا اليهود من تعدياتهم عليه.
فهل تستحق معركة 7 أكتوبر أن يخلدها القرآن الكريم؟ هذا ما نسلِّط عليه الضوء في النقاط التالية:
لقد صفعت كتائب القسام دولة إسرائيل كما لم يحصل لها من قبل على مدار 76 سنة. ورغم أن إسرائيل تعرضت في حرب أكتوبر 1973 لهجوم مشابه بدأته مصر وسورية، إلا أنه لا يُقارَن بما قامت به القسّام من حيث: فارق القوة، “فالقسّام” فصيل فلسطيني لا يُقارَن بدول راسخة وقوية كمصر وسورية. مناطق الاشتباك، حيث لم تدخل هذه القوات العربية إلى عمق إسرائيل، كما دخل “القسّام”. المدة الزمنية، ففي خمس ساعات فقط كبّد “القسّام” إسرائيل من خسائر بشرية أكثر مما حصل في عدة أيام من حرب 1973 بالنظر إلى عقيدة “القسّام”، فإنهم وفق ظننا الأقرب إلى صفة “عباداً لنا”، ولا نزكّي على الله أحداً، خصوصاً أن مَن اشترك من “القسّام” في تلك المعركة كانوا صفوة صفوتهم، من حفظة القرآن الكريم، ومصلي الفجر، وقائمي الليل، وذوي الأخلاق العالية. وفي تقديرنا أن صفة “عباداً لنا” مختلفة ومغايرة لصفة “أولي بأس شديد”، فربما يحظى نبوخذ نصّر بالصفة الثانية، أو غيره من الجيوش المعاصرة، لكن عنصر التميز في هذه الحالة هو العبودية لله بما يوحي بالصلاح والتقوى واستحقاق نصر الله لهم، إذ إنهم في هذه المعركة يمثلون جند الله، وكما قال الله تعالى: “وإن جندنا لهمُ الغالبون”. لقد وصف الكثير من المحللين العسكريين عبر وسائل الإعلام المختلفة معركة 7 أكتوبر بكثير من أوصاف الانبهار والإعجاب الشديد، واتفق عدد منهم على أن هذه المعركة تستحق أن تُدَرَّس في الكليات العسكرية لألف سنة قادمة، وهي أوصاف تنسجم مع كونها بشارة إلهية أشار إليها القرآن الكريم منذ ألف وأربعمائة عام وإلى يوم القيامة. كما اتفق كثير من المحللين والمتابعين المختصين بأن هذه المعركة قد فضحت ضعف إسرائيل وانحطاطها الأخلاقي الرهيب، وكشفت زيف دعوات حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية والمساواة، وهشاشة ما يُسمى بالقانون الدولي، وضعف هيئة الأمم المتحدة، وازدواجية معايير مجلس الأمن الدولي، وخذلان حكام العرب والمسلمين لأقدس معركة في التاريخ، فحُقَّ لهذه المعركة أن تكون فاصلة في التاريخ ومحقِّقة لـ وعد أولاهما.
الإفسادة الثانية، وهي البطش الإسرائيلي الخارق للعادة كرد على معركة 7 أكتوبر 2023، حيث عادت الكرَّة لإسرائيل، وحصلت على تأييد ودعم دولي خارق للعادة كذلك، فحصلت على شحنات أسلحة من معظم الدول الغربية، وتسهيلات من الدول العربية والإسلامية، وقوات مقاتلة إلى جوارها من مرتزقة وخبراء عسكريين وأمنيين، وشرعت في تنفيذ أكبر مجزرة في التاريخ معروضة عبر شاشات التلفزة ووسائل الإعلام العالمية.
لقد بدى الرد الإسرائيلي كجملة من الحروب، حيث شنت هجوماً ممنهجاً على كل محافظات ومدن قطاع غزة، وعدد من مدن الضفة الغربية، واشتبكت مع قوات المقاومة الإسلامية اللبنانية واليمنية، وكلما بدت دواعي الانتهاء من المعركة تجددت رغبت قادة إسرائيل في استمرار الحرب وسحق أعدائهم، زاعمةً حرصها على تفكيك المقاومة الفلسطينية وتدمير قدراتها واستعادة أسراها. فلما تعاطت مع مشروع الهدنة الأولى لتبادل الأسرى، كان ذلك بمثابة “أحسنتم لأنفسكم”، ولما رفضت إسرائيل مراراً وتكراراً خطوة مماثلة بعد ذلك وعلى مدار شهور، مما أدى لأن تَضِيق بعض الدول الداعمة لها بها ذرعاً، وتتراجع عن دعمها، وتستمر إسرائيل في حالة استنزاف مستمر لقواتها في الميدان، فكان ذلك بمثابة “وإن أسأتم فلها”.
ويبدو من صيغة “فإذا جاء” بأن أحداث وعد الآخرة ستكون قريبة جداً من هذه العنجهية الإسرائيلية. وهنا لنا وقفة مع وعد الآخرة:
المدة بين الإفسادتين قريبة جداً، فبينما استغرقت الأولى حوالي 76 سنة، استغرقت الثانية قريباً من سنة واحدة، حيث يفوق حجم الجرائم الإسرائيلية ويتبدى العلو والإفساد الإسرائيلي في هذه السنة كل ما ارتكبته من فساد وعلو في 76 سنة. إن معركة طوفان الأقصى لن تتوقف قبل أن تسيء وجه إسرائيل بفضح قيمها، وبلوغ انحطاطها مداه، بحيث يأذن الله بزوالها. وهذه نتيجة منطقية، إذ إن أي تهدئة لن تكافئ صبر الناس على أذاها. وفي وعد الآخرة يتم الحديث عن المسجد. وسياق الآيات السابقة يشير بالضرورة إلى المسجد الأقصى الذي بدأت به السورة. وبينما لم يأتِ الحديث عنه في الإفسادة الأولى، برز بوضوح في وعد الآخرة حيث سيكون دخول المسلمين وكتائب المقاومة الفلسطينية للمسجد الأقصى عنواناً للنصر. شاء الله تعالى أن يصف دخول المسجد بأنه مشابه تماماً لدخول سابق. لا ندري على وجه اليقين/ هل المقصود به دخول المسلمين سابقاً للمسجد، وهو ما كان إبان الفتح العُمري للقدس، أو إبان تحرير صلاح الدين للقدس، أم هو دخول اليهود للمسجد الأقصى، فقد دخلوه منتصرين في حرب عام 1967، وإن كنتُ أرجِّح دخول اليهود للمسجد الأقصى، ليكون الفعل بما يقابله، ويكون المسجد الأقصى هو وجهة هذه المعركة. إن انتصار المقاومة الإسلامية في فلسطين على إسرائيل سيكون انتصاراً تاريخياً بكل معنى الكلمة، بحيث تنتهي إسرائيل وآثارها من الوجود جملة واحدة، فينتهي تأثيرها على دول العالم، وينتهي تحكّمها بأمريكا وأوروبا والحكام العرب، مما يجعل هؤلاء جميعهم يتنفسون الصعداء، وكأن جاثوماً قد زال عن صدورهم، مما يجعل من هذا الانتصار الساحق تتبيراً لعلو إسرائيل وإنهاءً لإفسادتهم الثانية والأخيرة. إن فلسطين أرضٌ باركها الله للعالمين، فما يجري فيها من أحداث ينعكس بركة على العالم، فزوال إسرائيل سيكون له آثار إيجابية كبيرة على العالم كله، وبهذا القدر يكون فعل المقاومة الإسلامية في فلسطين بركةً للعالم كله، وتكون هذه المعركة الحاسمة معركة ربانية تُبهر العالم وتمنحه السلام، ومثل هذه المعركة المقدسة لا يمكنها أن تكون على أيدي جيوش عفنة متمرغة في وحل العبودية لحكامها، بل على أيدي ثلة مؤمنة استحقت أن ينسبها الله تعالى إلى ذاته العلية فيقول: “عباداً لنا”.